التغزل في غلاف ديوان إيكاروس 

نقد

 

الدكتور  أحمد فرحات – ناقد أكاديمي

 

 

عليك أن تتخيل عنوانا بهذا الزخم المعرفي والثقافي على غلاف ديوان شعر!

وحسبك أن تقرأ واحدا من العنوانات المطبوعة على متن الغلاف، وهو يكفي لتحديد رؤية الشاعر لمشروعه الشعري.

إن الشاعر – منذ البدء- يدرك أثر العتبة وصداها لدى المتلقي فيفاجئه بهذه الكتلة النصية ذات الزخم الثقافي المعرفي المتنوع، ولا أقول المتضارب، فوق غلاف الديوان. ولم يخل لون الديوان من علامة، ولا صورة قرص الشمس وهو يحتضن الأجنحة من علامة أيضا، ولا حتى اسم الشاعر المكتوب بطريقة مختلفة عن باقي كتابات العنوان من علامة أراها فارقة في تهمييش الاسم أو وضعه على جنب بطريقة تشي بالصانع ومكانته في العمل برمته.

فلون الديوان يغلب عليه اللون الأسود الفاحم، باستثناء مربع النص في المنتصف، حيث قرص الشمس بلونه الذهبي الذي يشي باستدارته التامة وتمركزه في كبد السماء ليعلن بجلاء عن شدة التهابه، وحرارته، من جهة، ومن جهة أخرى يُذَكِّرُ ببريق الذهب وأنه مطمع لكل عين ترى فيه الامتلاك، والاستحواذ، ومن ناحية أخرى يرمز هذا القرص الذهبي إلى الحقيقة في شكل لافت، وماتع؛ لأن إيكاروس الذي حرم من الحرية إثر سجنه وابتعاده عن عالم الضوء والانبهار، تاقت نفسه إلى الوصول الكامل إلى قرص الشمس(الحقيقة) بعد أن ركب لنفسه أجنحة من شمع –حسب الأسطورة اليونانية القديمة- وطار إلى أقصى مدى هروبا من عالم الظلام والسجن، ووصولا إلى الحقيقة، ونسي وصية أبيه ألا يطير بعيدا مخافة السقوط نتيجة احتراق الشمع، ولكن الحقيقة دائما مغرية، وتستحق الفناء من أجلها، فحاول أن يصل لكنه وقع دون أن يأبه لوصية الأب( ).

من الجلي اتكاء الشاعر على أسطورة إيكاروس الإغريقية القديمة، وقد سبقه كتاب آخرون في توظيف هذه الأسطورة، كأحمد خالد توفيق الذي استلهم الأسطورة في العنوان والمضمون في رواية الخيال العلمي “مثل إيكاروس” طبعتها دار الشروق عام 2015م. ولكن يبقى للعمل برمته أنه أول عمل عربي يقوم على مفهوم كتابة اليوميات بشكل لافت ومثير. فقد بدأ الشاعر كل نص من نصوص حكايته الشعرية بفعل ناقص(كان) ليس للدلالة على الزمن بقدر ما هو دلالة على الحكي. كما أن العمل يطرح سؤالا مهما للغاية حول طبيعة البنية الدرامية في النص وخاصة الحبكة الفنية حيث يبدأ بكلمة المطارد(بكسر الراء) وينتهي بكلمة المطارد(بفتح الراء) وفي هذا يكشف العمل عن اتجاهه الفني فيما يخص الحبكة الفنية الشعرية إذ كيف تحول اسم الفاعل إلى اسم مفعول عبر متواليات سردية حكائية لها بداية ووسط ونهاية. فالمطارِد بكسر الراء هو ذلك الشخص الذي يقوم بمطاردة فريسته للنيل منها، أو هو الشخص الحامي للقانون المدافع عن الحق، والمسؤول عن إرجاع الحق إلى صاحبه إذا سلب منه، فكيف يصبح مطارَدا تترقبه عيون العدالة، ويغدو لصا ….

 

نعود إلى لون السواد الحالك للغلاف، وهو لون معبر عن الفترة التي حددها الشاعر لليوميات، إذ كان يسود مصر في تلك الفترة سواد حالك لا يعرف مداه، نتيجة الأحداث الجسام التي تعرض لها الوطن إبان أيام الثورة، وما نتج عنها من قتل وإرقة دماء للأبرياء في محيط ميدان التحرير، حيث أصيب المصريون بفوضى عارمة أقضت أمنهم، واستلبت استقرارهم، وأهلكت شبابهم.. أما كتابة العنونات بلون أبيض فإنه يشي بانبثاق الإبداع في ظل هذا المناخ المرير، وإن لم يولد الإبداع من رحم المعاناة فلا يعول عليه!

أما كتابة اسم الشاعر بطريقة عرضية فإنه يشي بموقف المراقب للأحداث عن كثب، والمطلع  على دقائق الأمور..

وعن الزخم المعرفي والثقافي للعنوانات الثلاثة المكتوبة فكل عنوان على حدة هو عنوان لتيمة شعرية من تيمات الديوان؛ فالديوان مكون من ثلاث تيمات مختلفة: حكايات العطب ومواريث السقوط، حكايات الثورة والعاشقين، حكايات الصيد والحيوان. وكلها تحمل كلمة (حكاية)..والحكاية هي أقرب لفن النثر من الشعر؛ لأنها تستدعي الحديث عن التفاصيل وعرض الأفكار..لكن.. لا حدود للشعر في انتقاء ما يريد الشاعر التعبير عنه، ثم من قال بأن الحكاية خاصة بالشعر وحده؟ إن الشعر عالم فسيح يتسع لأكثر مما يحتمله الإنسان، فهو قادر على الحكاية والحوار والدراما وغيرها. ولا نحتاج إلى تدليل أو برهان لإثبات احتمال الشعر حمولات غير شعرية، وغير قولية ويكفي أن نشير إلى الشعر الجاهلي واعتماده القص والسرد والدراما في بنيته.

سألقي الضوء قليلا على الحكاية الأخيرة من الديوان، أعني حكايات الصيد والحيوان، وهي الحكايات التي خصها الشاعر بهذا العنوان، وتحته إشارة عنوانية أخرى، تحمل مضمونا فنيا لغرض الفن الشعري برمته، وهي بالجهد تبدو القصيدة بعيدة بالرغم من قربها، ثم يأتي النص الهدف، ويحمل عنوانا أخر، عنوانا مستوحى من عالم الحيوان، ابن بريح، وأسفله في نهاية الصفحة عنوان ينتمي إلى الفن الشعري أيضا وهو في البدء كان الشعر نثرا، ثم يتلوه النص المكتوب، وفي خاتمة الديوان عنوانات مساعدة أخرى تلقي الضوء على النص المكتوب، وتحمل مضمونا يؤكده، وهذا المضمون خارج سياق النص المكتوب، أي أنه فيديو وثائقي يحمل قيمة ما. إذن نحن أمام كتلة نصية مكتملة من العناوين، والفيديو الوثائقي، ناهيك عن طريقة عرض النص المكتوب، وما يحمل في طياته من إشارات تعبيرية ووظيفية تصب جميعا في توكيد الدلالة العامة أو تشظيها وتماهيها في النص الأصلي المكتوب وغير المكتوب.

وبناء على ما سبق فإن كل إشارة من إشارات الكتلة النصية هي نص قائم بذاته، فالعنوانات الأساسية والفرعية، فوق الصفحة وأسفلها، وعلى الغلاف وصفحة الخاتمة من عناوين للفيديوهات الوثائقية، هي جميعا نصوص قائمة برأسها، تحمل ما تحمل من المضامين الفكرية والشعورية والخلقية والبيئية، فنحن لسنا أمام ديوان تقليدي مطبوع بطريقة تقليدية، بل أمام تجربة فنية ذات الشعب الدلالية والفنية، نحن بإيجاز أمام كتلة نصية مكتملة تمنحك وجبة مكتوبة ومسموعة ومرئية تعمل على مزيد من الدهشة والذهول والإدهاش.

لنأخذ نموذجا من نماذج الديوان، خاصة في القسم الثالث منه، حكايات الصيد والحيوان، وهو من الأقسام المهمة في الديوان، إن لم يكن الأهم، لما يتميز به من درجة عالية من التجريب الفني، عن طريق طرح عدد من الأسئلة المهمة.

العنوان الفرعي بعد عنوان الديوان الأصلي هو حكايات الصيد والحيوان، وأول ما يتبدى للقارئ أن هذا القسم مختص بالحديث عن الحيوان والصيد، وهو عنوان كما ترى مراوغ ملتو، يظهر شيئا ويخفي أشياء، والناقد الحق هو من يقرأ المسكوت عنه، ليكشف عن باطن العمل وجوهره. وتحت هذا العنوان عنوان آخر مكتوب بخط غير مضغوط هو بالجهد تبدو القصيدة بعيدة بالرغم من قربها، وثنائية العنوان هنا تحمل أكثر من دلالة، الأول: هو تلك التسريبات النقدية في نسيج العمل الشعري برمته، إذ لا تنفك أي قصيدة أن تخرج عن هذا النسق، وهذه التسريبات النقدية تعد عاملا مساعدا للقارئ ليدرك أن وراء تلك الحكاية أو غيرها دلالة نقدية موجهة إلى بنية النص، ليكون الشاعر نفسه ناقدا في الآن نفسه. وحتى تكتمل خيوط الشبكة يبقى أن ندرك تضافر هذه الخيوط جميعا من أجل إنتاج الدلالة المتوخاة من النص.

مقالات ذات صلة

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: