التعبير الإنساني والمحاكاة

بقلم الأستاذ الدكتور: أحمد يحيى علي
أستاذ الأدب والنقد، كلية الألسن، جامعة عين شمس، مصر
إن الإنسان في ضوء حضوره الفاعل داخل إطاره المرجعي (العالم الذي يحيا فيه)، وفي ضوء ثنائية التأثير والتأثر التي تهيمن على علاقته بهذا العالم يقدم استجابات تعبيرية، هذه الاستجابات تعد بمثابة انعكاس كاشف عن روح البيان الذي علمه الله سبحانه وتعالى لمخلوقه الإنسان، والاستجابات التعبيرية هذه لا تتخذ في ظهورها شكلا واحدًا بل تتنوع في هيئتها التي يمكن تقسيمها قسمين: استجابات لغوية واستجابات غير لغوية؛ هذه الأخيرة قد تكون في شكل لوحة مرسومة أو تمثال منحوت أو مقطوعة موسيقية أو غير ذلك، والحديث عن الاستجابات اللغوية يأخذنا إلى مستويين لغويين أثيرين في البيان الإنساني:
– المستوى المباشر الذي تقدَّم من خلاله الرؤى الفكرية والمكونات الشعورية العاطفية المجردة بصياغات لغوية يمكن نعتها بالوضوح الذي هو ضد الرمز والتخييل والمجاز.
– المستوى غير المباشر أو الإيحائي الذي يميل إلى الخيال، وفي هذا المستوى يسكن الأدب بأنواعه المتعددة التي نعلمها عنه، ومع هذا المستوى تجد مجتمعات القراءة غير المكتفية بحد المتعة والتسلية فحسب نفسها بحاجة إلى جهد في التأويل الذي يتجاوز حدود المعاني القريبة سهلة النيل إلى ما وراءها في عملية تقوم على الافتراض وتتطلب قدرا من الإلمام المعرفي بصفة عامة والنقدي بصفة خاصة. ( )
إننا بالوقوف المتأمل أمام علاقة الإنسان بعالمه وما يترتب عليها من استجابة تعبيرية تتجلى في هذين الاتجاهين الإثيرين: اللغوي وغير اللغوي نقترب من مفهوم المحاكاة الشهير الذي خرج منذ القدم من رحم الفلسفة اليونانية عند أفلاطون وتلميذه من بعده أرسطو؛ فإذا كانت المحاكاة بالنظر إلى مدلولها تتأسس على النقل المصاحب لفكرة المماثلة والمشابهة والتقليد فإنها بذلك تأخذنا إلى جوهر العملية الفنية تحديدًا التي تعد في مجملها عالما موازيًا للواقع المعيش(2)؛ ومن ثم فإن ثنائية الذات والعالم واتصالها بما يسمى الفينوميولوجيا أو علم الظواهر الذي تمت معالجته فلسفيًا من خلال هيدجر وهوسرل ومن جاء بعدهما تعد وثيقة الصلة بهذا المفهوم الأثير؛ فعملية الإدراك لما جرى ويجري في العالم وما يستتبعها من ردود أفعال ترسلها الذات إزاء الأثر المتروك في وعيها على المستويين العقلي والعاطفي تعد أداة من أدوات الكشف عن ذاك المنقول منه؛ أي العالم بعد أن ارتدت ثيابا تعبيرية خاصة تشير إلى شخصية صاحبها وقد اصطبغت بصبغة ما وقر في عقله وقلبه.
فإذا كان هذا العالم بتفاصيله المسكونة بالزمان والمكان والأشياء سواء أكانت إنسانية أم غير إنسانية يشكل في مجمله موضوعًا يقع في مرمى الوعي فإن الفاعل الإنساني في علاقته به يتحرك في ضوء هذا المفهوم الفلسفي الحتمي (المحاكاة والعملية الملازمة لها؛ أي النقل مما هو كائن فيه إلى دائرة الوعي بشقيها الذهني والشعوري العاطفي).
ومهمة الإنسان القادر على البيان إعادة إنتاج ما دخل إلى تلك الدائرة مرة ثانية وبناءً على الشكل الذي سيخرج من خلاله المنقول سيتحدد اتجاه المحاكاة؛ فإذا كان العالم وفق الرؤية الأرسطية بمثابة كل مركب من أجزاء تجمعها علاقات وصلات تجعلها مترابطة فيما بينها؛ فإن النسق التعبيري المرسَل من قبل الذات والعاكس لالتحامها به وتأثرها بما فيه هو أيضًا في مجمله منجز يتأسس على عناصر يتشكل منها بينها تظهر أمام المتلقي لها وفق ترتيب معين يحتاخ إلى نظرة ذات طبيعة استقرائية تظهر ما بين هذه العناصر من علاقات تسهم في خروخ هذا المنجز أمام العيون في لحمة واحدة، وعلى نحو عبقري متفرد مميز. (3)
إن جلوس الذات الإنسانية في موقع المستقبل الموظف لمنظومة الجوارخ التي تتمتع بها في إدراك ما حولها في سياقها الحياتي المعيش يجعل الصادر عنها بعد ذلك من أشكال تعبيرية متنوعة بمثابة مرادف يشغل موقع النتيجة بإزاء سبب أو عامل كان المحرك الرئيس لظهوره؛ فأنماط المعرفة التي أنتجتها وتنتجها الإنسانية على كثرتها كمًا وتنوعها كيفًا جميعها قد خرج من رحم المحاكاة؛ وإن كان الفلاسفة القدامى قد وضعوا هذا المفهوم الذائع الشهرة والانتشار في قالب دلالي محدد فإن النظر الناقد في جداله مع هذا المفهوم ومدلوله سيجعله قابلا لأن يكون مرنا، وقابلا للتمدد والتوسع بحيث يجعل منه حلقة وصل بين العالم وما فيه من جهة والذات الإنسانية وكل ما تنتجه من استجابات تعبيرية لغوية وغير لغوية تبعًا لعلاقتها به وتأثرها وتأثيرها فيه من جهة ثانية. (4)
وبناءً على هذه الرؤية يكون كل ما صنعته يد الإنسان بمعونة باقي جوارحه بمثابة محاكاة حاضنة للأثر أو لرد الفعل النابع والناتج من الحضور الفاعل لهذا الإنسان في اتصاله الواعي بعالمه؛ فالحضارة إذًا بمفهومها الشامل وما ينضوي تحتها من أشكال معرفية وفنية هي التجلي الأكثر وضوحًا لمسألة المحاكاة؛ بوصفها الأثر أو النتيجة المرتبة على كون هذا الإنسان أرقى المخلوقات على الأرض؛ فكرامته التي نالها متميزًا بها عن سائر المخلوقات الأخرى التي تشاركه الحياة على هذا الكوكب مبعثها هذه المنظومة الإدراكية التي تتكون من: عقل وقلب يخدمهما مجموعة من الجوارح، تحمل لهما ما جرى ويجري في هذه الحياة؛ فيقوم العقل أداة الفكر والقلب الذي يشاركه الفكر ويزيد عليه في الشعور وفي العاطفة بعمليات اختيار وانتقاء لما يريانه جديرًا بالتسجيل وبالبقاء،لكن هذا البقاء سيأتي مصطبغا بصبغة فردية ذاتية مخصوصة ستشجع على النظر إليه في ظل هيئتين؛ الأولى مرجعية طبيعية موضوعية كما يبدو بها الشيء المنقول في العالم، والثانية: شديدة الخصوصية تتصل بروح المعبِّر وبما يمليه عليه فكره وشعوره؛ إذًا فإن المنقول من العالم الذي تحول إلى منجز تعبيري سيبدو في تجليه الفردي نتيجةً أو لنقل ناتج معادلة تفاعلية طرفيها: عالم (موضوع)+ذات تمتلك عقلاً وقلبًا وجوارح خمسة. والمتشكل بعد ذلك من هذا التفاعل يأتي في مكان الحكم أو النتيجة أو الموقف الذي به تُعرف الذات الإنسانية وتكتسب من خلاله حضورًا وتميزًا داخل عالمها، ويمكن تصنيفها بواسطته وقراءة الظرف الزماني والمكاني المتصل بدائرتها الواقعية بالاستعانة به. (5)
إن المحاكاة إذًا وفكرة النقل من العالم المصاحبة لها تضعنا أمام محددات، يمكن الوقوف عليها على النحو الآتي:
– ثنائية الذات/ الإنسان والعالم وعاء إطار يمثل المنطلق الأول لكل أنماط الفكر الإنساني وما يتصل به من علوم ومعارف وفنون.
– إدراك الإنسان لما يجري في عالمه عملية تترتب عليها أفكار ذات طابع مجرد.
– هذه الأفكار المجردة تعد نتيجة متولدة في داخل وعي الإنسان تحيل إلى الدور الذي قامت به جوارحه في نقل ما هو فيزيقي ملموس كائن في عالمه إلى منطقتي الفكر والشعور عنده؛ ألا وهما عقله وقلبه.
– الحضارة في إطارها الدلالي الجامع تعد بمثابة المفعول به لهذه العملية المتكونة من فعل (أدرك) وفاعل (الإنسان).
– مجالات العلوم والفنون جميعها نتيجة، التصدي لها بالقراءة والتحليل وإصدار الأحكام يأتي بناءً على قناعة مفادها أنها حاصل ما بقي واستقر في الوعي مما تم نقله من العالم؛ هي إذًا اختيار وانتقاء وإعادة صياغة.
– المحاكاة مظهر عاكس للاستجابة التعبيرية الصادرة عن وقوع العالم في موقع الموضوع الذي يشغل بال الذات الإنسانية المهتمة به طوال عمرها على الأرض.
– المحاكاة نقطة التقاء لاتجاهات عديدة؛ فقد تكون باللغة وبغير اللغة؛ وإذا كانت باللغة فإن لها مظهرين؛ الأول: معياري مباشر نلمحه في كتابات المؤرخين وعلماء الاجتماع والجغرافيا …وغيرهم، والثاني: إيحائي يقوم على الرمز والتخييل الذي نجده جليًا في أقلام الشعراء والقصاصين وكل من ينضوي تحت هذه الكلمة الإطارية (أديب)، وإذا كانت بغير اللغة فإن كل منجز بشري خرج إلى دنيا الناس بعيدًا عما ينطقه اللسان أو يسطره القلم يندرخ تحته.
– المحاكاة ليست نقلاً حرفيًا محايدًا لما في العالم؛ لكنها انعكاس للعالم بوصفه نتيجة أو قناعة أو لنقل موقفًا ذا صبغة فردية خاصة، من هنا عرفت الأسرة الإنسانية على اختلاف بيئاتها الثقافية ما يسمى بالرأي أو وجهة النظر أو الموقف أو الحُكم؛ ومن ثم فإن مفردات: الإنسان، والعالم، والبيان والتعبير بشقيه اللغوي وغير اللغوي جميعها يتحرك ويتقارب ليلتقي ويذوب في كلمة واحدة هي (المحاكاة).
ــــــــــــــــ
هوامش:
– د.أحمد يحيى علي، صناعة الأدب وثقافة الوهم، عدد 101، 2019م، مجلة الأدب الإسلامي، تصدر عن رابطة الأدب الإسلامي، الرياض.
2 – انظر: نبيل سليمان، وعي الإنسان والعالم، ص12، طبعة 2001، دار الحوار للنشر، اللاذقية.
3- انظر: د.سامي منير عامر، وظيفة الناقد الأدبي بين القديم والحديث، ص11 ، وص27، طبعة دار المعارف بالقاهرة، دون تاريخ.
4- انظر: علي الدجوي: الحضارة الإنسانية في مسيرتها التاريخية، ص23، طبعة دار الفارابي، للنشر والتوزيع، بيروت.
5 – انظر: د.أحمد يحيى علي، الخطاب الأدبي مرجعية التجربة وشعرية الصياغة، ص112، الطبعة الأولى، 2019م، دار الأكاديميون للنشر والتوزيع، عمان.