البلاغة ممارسة تواصلية
المعاني التداولية في الخطاب القانوني

بقلم: الدكتور أيمن أبو مصطفى
تحليل الخطاب القانوني يتجاوز المعاني الحرفية إلى معاني سياقية فوق مستوى الجملة فيما يخص هيكلة النص وتكوين الموضوع وتبادل الأدوار، وأيضاً على مستوى الكلمة أو الأداة فيما يخص استخدام محددات الخطاب ومصطلحات المخاطبة والسكتات والتأتأة أو التردد في الكلام وحتى التهكم. وتغير حدة الصوت والخصائص اللغوية المحاذية (الإيماءات، التحديق، تعابير الوجه) ويدرس الخصائص البراغماتية مثل المقاطعة والملاطفة وصياغة السؤال.
فتحليل الخطاب الجنائي يهتم بالأنشطة التي لها علاقة بجمع وتفسير الأدلة، وطريقة فهم القوانين، وكيفية الاستدلال والاستنتاج.
وبذلك نجد أهمية دراسة البلاغة في تحليل الخطاب القانوني، فهي ضرورية لفهمنا للحالات المختلفة للنص والحديث في النظام القانوني والقضائي. من الذي يتحدث ولمن يتحدث وأين ومتى ولماذا، كلها عناصر سياقية هامة ضمن العديد من الظروف والأنشطة المختلفة المعنية.
فنحتاج في اللغة القانونية إلى وضوح الدلالة؛ لأن وضوح الدلالة سيساعدنا في العملية الاتصالية والتواصلية، وبغير الوضوح ينعدم التواصل، ومن ثم لا يمكن إصدار الأحكام.
فعلاقة علم الدلالة بالمعجم علاقة قوية حيث لا يمكن الوصول لدلالة الكلام دون وجود المعنى المعجمي في الكلمات المستخدمة ، والمعنى المعجمي قد يكون مرتبطا بالزمان والمكان، فلكل مدينة معجم خاص، ولكل أصحاب مهنة معجم خاص، ولكل مجال معجم خاص، فالألفاظ لايمكن فصلها عن معجم ناطقيها، فكلمة “فاعل” في السياق القانوني تعني “مرتكب الجريمة” وفي السياق التعليمي تعني”من قام بالفعل” وفي السياق الاجتماعي تعني” من يعمل معتمدا على قوته في كسب رزقه” فحينما تقول: أريد فاعلا، فلابد وأن تراعي السياق الزماني والمكاني، وتراعي المتلقي الذي تخاطبه.
فالاتصال قائم على ما تحمله الرسالة -المنبثقة من المرسل إلى المستقبل- من دلالة فإذا كانت الرسالة لا تحمل دلالة فلن يستقبلها المستقبل بسبب ظنه أنها لا تخصه أو أن المرسل يهذي فيفقد الاتصال قيمته.
ويظهر ذلك خلال التحقيقات، وخلال المحاكمات، فالمحقق حينما يوجه خطابه إلى المتهم ، فإنه يستخدم اسمه في النداء، فإن لم يكن النداء مصحوبا بنظرة العين أو إشارة اليد، ربما ظن المتهم أن المحقق يكلم غيره، أو أنه يردد اسما لا علاقة له به.
فأي كلمة أو لفظ لغوي يتكون من مجموعة من الرموز الصوتية التي ليس لها أي معني خارج نطاق ثقافة ما وعلينا أن نرجع إلي العلامة اللغوية حتى نصل إلي الدلالة، إن العلامة اللغوية لا تشير إلي شيء محدد بعينه و إنما تشير إلي صورة سمعية ، والمقصود بالصورة السمعية ليس الصوت المسموع ، أي الجانب المادي ،بل هو الأثر النفسي الذي يتركه الصوت فينا ، فالصوت الذي نصدره بتلفظ كلمة “موكل- متهم- خصم – جان- …إلخ” لا يدل علي شخص بعينه بل علي المفهوم العقلي العام” للفظ” ، ولنوضح أكثر فلفظة “متهم” أصبحت علامة لغوية(sign) تتكون من أربع علامات من الأصوات اللغوية: “م ت ه م”، إذا اجتمعت هذه الأصوات معا فإنها تشير إلي دال/تصور لفظي (signified) هو المتهم يحيلنا هذا الدال/التصور اللفظي إلي المدلول (referent) وهو الصورة العقلية للمتهم، ويؤكد هذا أن العلامة اللغوية هي وحدة نفسية مزدوجة ، و العنصران (دال- مدلول) مرتبطان معا ارتباطا وثيقا ويتطلب وجود الواحد منهما وجود الثاني.
ويكون الدفاع أو الاتهام هو ما يثبت التهمة عليه إن كان خصما، أو يدفعها عنه إن كان موكلا، ومن هنا تكون أهمية البناء البلاغي للمرافعة والدفوع، وتكون هذه الدفوع مرتبطة بالبناء الثقافي والاجتماعي لمكان المخاصمة.
فالعلامة اللغوية هي الأساس الذي تعتمد عليه الدلالة في الاشارة للمعنى الموجود خلف العلامة الصوتية للكلمة وما يعبر عنها من رمز كتابي.
ولإدراك العلامة اللغوية أهمية بالغة في اللغة القانونية، حيث إن أغلب كلمات السب والقذف والشتيمة ترتبط بهذه الخاصية، فربما يحتاج المحقق إلى إدراك قيمة الكلمة في سياق الاستعمال لدى مجتمع معين، فكلمة ككلمة “مكوة” في السياق التداولي المصري تعني اسم آلة تقوم بكي الملابس، ولا تخرج عن هذا الاستعمال، أما في السياق التداولي للمجتمع السعودي فهي كلمة تشير إلى مستكره وهو”الاست” أو الدبر، وهي تحمل دلالة السب والقذف.
كذلك فإن بعض التعبيرات الصوتية تختلف من بيئة لأخرى، فتعبير “أحيه” في البيئة الإسكندرانية تعبير شائع يُستعمل بشكل طبيعي، لكنه قد يكون مستغربا في بيئة أخرى، ولذا فإن المحامي يحتاج إلى فهم الدلالات التداولية للألفاظ حيث يبحث عن « علاقة العلامات بمدلولاتها، والتداولية تهتم بعلاقة العلامة بمؤولها»( )، علاوة على تعبيرات تستمد دلالتها من سياق التواصل( ).
فطبيعة اللغة عند (لودفيغ فيتغشتاين) أنها لعبة، وقواعدها يحددها الاستعمال؛ ومن ثم فقد انصبت عنايته على معاني الكلمات، ومن أجل البحث عن هذه المعاني فينبغي النظر في استخداماتها داخل سياقات متنوعة في الحياة العادية اليومية( ).
والتحقيق إجراء تواصلي، يحاول فهم إجراء تواصلي آخر، وهما يحتاجان إلى الوضوح والبيان لتحقق التواصل الفعال، يقول طه عبد الرحمن «ولما كان التخاطب يقتضي اشتراك جانبين عاقلين في إلقاء الأقوال وإتيان الأفعال، لزم أن تنضبط هذه الأقوال بقواعد تحدد وجوه فائدتها الإخبارية أو قل: (فائدتها التواصلية) نسميها بقواعد التبليغ؛ علمًا بأن مصطلح (التبليغ) موضوع للتواصل الخاص بالإنسان»( ).
في بعض الأوقات يقوم محامي الدفاع بالتشكيك في محضر الشرطة على أساس أن جزأً من اللغة المستخدمة فيه لا يخص موكله.
فالقانوني يقف عند كل لفظ محاولا استكشاف ما يشير إليه من نفس قائله،فقد تقول (حسنا) وأنت ترفض الكلام، وتستفز بهذه الكلمة المتلقي، فأنت تقر بشيء هو يراك لا تقر به، فتتيح لنا البراغماتية شرح المبادئ التي يُعمَلُ بها في المحادثات وبخاصة المحادثات القانونية. يعد مبدأ جرايس التعاوني (Grice,1975) المنشور في (Jaworski and Coupland,2006) مبدأً براغماتياً حيث يقتضي أن يكون إسهام الفرد في المحادثة وقت حدوثها بالقدر الذي يتطلبه الغرض المتفق عليه أو اتجاه تبادل الكلام الذي يشارك فيه الفرد.