البلاغة ممارسة تواصلية 29
المقامات ونقد المجتمع وبلاغة التشويش
د.أيمن أبومصطفى
المقامات فن قديم، ولعل فيها بذور فن القصة، فهي وسيلة أدبية لنقد المجتمع، كما أنها وسيلة لتهذيب المجتمع عبر وسائل اللغة ،يقول د/ الطاهر أحمد مكي عن بطل المقامات وبطلها متسول ماكر ولوع باللذات ومستهتر… مع هذا يكون شجاعا يقتحم الأخطار وينفر منها أو ناقدا اجتماعيا “ثم يقول أيضا “وكان يمكن أن تتطور المقامة لو اتجهت إلى نقد العادات والتقاليد والقضايا الاجتماعية ، وأن تؤدي الدور الذى أضطلعت به الرواية والمسرحية فى الآداب الغربية ، لو لا أنها سرعان ما انحرفت إلى المماحكات اللفظية ، والألغاز اللغوية ، والأسلوب المصطنع الزاخر بالحلية اللفظية التى لا تعود على المعني بطائل يذكر ”
مع أننا نستطيع القول بأن الانحراف للمماحكات اللفظية أنحراف استخفاء وتستر ، وأيضا يمكن أن نعد المقامات من ضمن بلاغة المقموعين .”
فالاحتجاج الاجتماعي له وجود فى المقامات ولم ينته، و فى مقابل البلاغة الرسمية السائدة ، كانت توجد دائما بلاغة هامشية ، مناقضة للمقموعين من المحكومين ، فالبلاغة المقموعة : هى البلاغة المسكوت عنها فى كتب البلاغة الرسميه ، لا يلتفت إليها فى ظل هيمنه البلاغة المتوارثه وفى سياقات السطوة التى تمارسها أبنية القمع النقلي فى تراثنا ، هذه البلاغة انتجتها المجموعات التى لعبت دور المعارضة ، والتى كانت علي خلاف مع سلطة الدولة القائمة ابتداء من الدولة الأموية ، وانتهاء بالدول المعاصرة التى صحبت أنهيار الحضارة العربية .
فالمقامات تحاول أن تخاطب المستمعين من أولى الأمر بما يرضيها أو يشبع توقعها ، بل بما يناقض ما ألفته ، ويتوجه إلى أحوال المتلقين من المحكومين بما يكشف هوانها ، ويعبر عن حياة (القمع فيها . ولم يكن هذا الدور المناقض هينا ، أو مسموحا به أو مسكوتا عنه ، فقد واجهته قوى لم تتردد فى قمعه والبطش بمن يؤديونه ، ومن أنتجوا بلاغه تقوم على التعريض والتلطف ، والتلميح ، والتورية.
وضعوا القواعد التي يتعلم بها بلغاء المقموعين كيف يواجه الواحد منهم المتسلطين دون أن
تناله بالافتراس وكيف تقول ما لا يقال دون أن يقطع لسانه .
فهناك حالة من التفاوت الطبقي ، والتناقضات الحياتية التى شهدها العصر العباسي فضلا عن الإحساس الدامي الذى شعر به المثقفون من الأدباء والعلماء من أمتهان لكرامتهم ، وانتقاص لقدرهم وتثبيط لهم، إذ لم يعد أمامهم لكى يعيشوا سوى ارتياد القصور ، وتزييف المشاعر وامتثال الكذب وتعظيم الحكام وإبراز الخنوع لهم والإذعان لأوامرهم وإلباسهم أثوابا ليسوا من أهلها ورفعهم إلى مقامات تفوق مقاماتهم بل وتنقلهم – أيضا من عالمهم الأرضي إلى عالم السماء ليصبحوا نجوما
وكواكب وملائكة ، فعيشون بذلك مرحلة انفصام حقيقة تدعوهم إلى البحث عن لغة الدلالات والرموز الغامضة .
وكان هذا الاختفاء يتوسل باللغة فكان ” مسير اللغة يختصر مسير الحياة والعلاقات وكان النظر فى نشاط اللغة يركز فى نفسه الأحساسيس المضطربة الأساسية بالتطور والحاجة إلى القديم ، وما جد على الحياة من بواعث التقدم .
فالمقامات ليست الإ بحثا عن التناقض بين الماضي والحاضر ، أو بحث عن محاولة التكيف معهما جميعا ،فالتجاور بين الماضي والحاضر ، وإظهار هذا التناقض، والوقوف على مشكلات الواقع يظهر عن طريق السجع الذي يحقق ” من خلال جمل قصيرة متوازية لحظات منسجمة يبدو عليها ظاهر من الوقار لكن باطنها لا يخلو من شعور مبهم بالعجز ،فالسجع عمود فهم الحياة “ويقترب ما صنعه الهمذاني من وضع المتناقضين بجوار بعضهما من أساليب التقية : وهو أن يقول البليغ قولا مناقضا لما هو معروف عنه وذلك حين تفرض عليه مقتضيات صيانة النفس ، أن يقول عكس ما يريد. ، فينطق ما يحقق له السلامة معتمدا فى ذلك على أن العارفين فيه بأقواله التابعين لها ، سيقيسون اللاحق على السابقين قياس الفرع على الأصل ، فيردوا الحاضر المناقض من الأقوال إلى الثابت المؤكد من غائبها ، فيتم لهم إدراك القول الصحيح للقول المعارض .
فالبديع عند الهمذاني وأصحاب المقامات عموما صدى لقسوة الحياة أو صورة لاختلاف الظاهر والباطن ، فالبديع علاقة التستر إذا اجتمع له الظرف الناشئ عن الوئام الظاهري والحيلة والدهاء .
فالحياة متعترة تخفي تعثرها فى توازنات عارضة تخيل المختلف متشابها وغير المتسق متسقا ، والتألف الشكلي يحاكي المثل العامضة القديمة ويعجز عنها .
فاللغة فى المقامات تخفي في ثناياها مظاهر الألم ، فضلا عن اشتمالها على النواحي الثقافية والاحتجاج على الوضع القائم آنذاك .
فالكلمات – في كل حياتنا – مناط خشية ورجاء ، وتلطف ودهاء وملامسة وخشونة ، ويري مصطفى ناصف أن تأمل الكلمات والاقتراب منها وفيما تصنعه فى الخفاء خير وأبقي من تأمل البشر ، لقد رمز إلى صعوبة الاتصال وصعوبة الفهم من خلال كلمات اعتـبرت زمنا طويلا زينة ولهوا ” وبعض اللهو جد وأسى وأشفاق وحرية “.
فصنيع الهمذاني وأصحاب المقامات عموما هو التمثيل الرمزي المتطور ، أما هذا العبث والتناقض الذى يعيبه الباحثون الذين يلتمسون نمو الأفكار ، هذا الخلط المتكرر والمصور بين الضحك وما يشبه البكاء هذا هدف نصوص كثيرة أن يقول المرء كل شئ فلا يدان ، هذا الدفاع والهجوم يتشابكان فى عالم صعب لا تمتاز فيه شئ من شئ الإ بمشقة ” هذه جماليات الظلام نبه إلى أهميتها بديع الزمان ”
ألم يستطع فن الإضحاك عند الجاحظ أن يداوى الجرح ، وأن يعيد إلى الذهن عافيته وقوته ، والتنافس عند الجاحظ لا حدود له ، وصحوة التأمل تكلف صاحبها ما لا تطبق ومن ثم اتجه الهمذاني إلى الضحك المريب ”
خرج الأضحاك من النقد الباطن إلى التشوية السطحي ، خرج من المساءلة إلى العلن ،فالمقامات كانت على وعى بما فقدته الحياة أو الكلمات ،فاتجهت إلى الإضحاك لنقد هذا الواقع، بنمط عبر عنه مصطفى ناصف بالكوميديا ، الكوميديا ليس لها شكل واحد. الكوميديا اسم آخر للمقامات. المقامات قرينة الجناس والسجع والخداع اللطيف.
وإذا كانت البلاغة المقموعة تضم الكتاب الذين اذا أرادو طريقا جديدة فى الكتابة فإن الهمذاني بخاصة ، وأصحاب المقامات عامة ، قد ناقض ذلك فلم يلتزم الصمت ولم يأت بطرق جديدة فى التعبير – طريق الزركشة والسجع والجناس – لكنه أغرق فيها وأنغمس فيها بما يسمح لنا أن نقول أن بلاغة المقامات مرحلة أعمق من البلاغة المقموعة .
أى إن المقامات تتخذ من الأغراق فى الواقع مظهرا لنقد المجتمع والاحتجاج على أوضاعه الاجتماعية والثقافية ،لذا يذكر د/ التطاوى أن فن المقامة يكشف جوانب من الحياة الاجتماعية فى بغداد فى القرن الرابع الهجري ” ففى المقامة صورة للوليمة التى تقدم للضيف فى ذلك العصر ، ينضاف إلى ذلك مشهد أولئك البخلاء الذى أكثر فيهم الجاحظ سخرية وتهكما فى كتابته حولهم .