الأمنيات

عمرو الزيات
سيق من عنوان المقال أن موضوعه الأمنيات، ولا شك أنها – الأمنيات – تتعدد بتعدد البشر وتنوع مشاربهم وميولهم؛ فلكل إنسان أمنية ظل خيالها يراود روحه، وقليل من يستجيبون لنوازع أنفسهم، ويسعون خلف تلك الأمنيات ويجعلونها حقيقة يعيشونها، وواقعا يلامسونه.
ولست مختلفا عن البشر وعن الفطرة الإنسانية؛ إذ كانت لي – كالبشر – أمنية؛ بل أمنيات كثيرة، وليس هذا بغريب علينا ؛فنحن – كما يعلم المقربون – مختلفون كل الاختلاف عن الناس ، كانت لنا أمنيات كثيرة إلا أنها – كما سترى أيها القارئ – جداول تصبّ كلها جميعا في محيط واحد.
كنت صغيرا لم أدخل- بعدُ – حدود الشباب، وكنت – ولا زلت حتى الآن – مترددا في قراراتي، مضطربا في تفكيري، لا يخلو لساني من حدة في القول، وغلظة في اللغة يعوضان ضعفا ظاهرا في بنية جسدي، وكانا سلاحين بهما أخوض معاركي التي لا أفتأ أدير رحاها هنا وهناك.
وأذكر أن من أكثر صور التردد والاضطراب تلك أنني كنت أتمنى أن أصبح رساما، يجسد مظاهر الجمال في هذا الكون، وكنت أمسك بالقلم وأشرع في الرسم ثم التلوين لتلك المسوخ التي كنت أزعم – واهما- أنها من آيات الجمال والعبقرية، وكان الأصدقاء والزملاء يعبرون عن إعجابهم بتلك الرسومات اتقاءً لغضبتي الكاذبة المفتعلة.
بيد أنني كنت مؤمنا أنني لست بماهر في الرسم، وأن ثمة موهبة أخرى قد خُلقت لها؛ وإن كنت أجهل كونها وسبيل الوصول إليها، ثم رأيت أنني – أو تمنيت أن أكون – طبيبا جراحا؛ لأريح الناس من أسقامهم، ثم تمنيت أن أكون عازفَ لآلة وترية ، ولم تزل تلك الأمنية تراودني حتى بلغتُ مبلغ الشباب قبيل الالتحاق بالجامعة؛ وحالَ ضيقُ اليد وأعباء الوالد الكثيرة – خصوصا حين يكون عدد أفراد الأسرة كبيرا – دون تحقيق تلكم الأمنية.
ثمّ كانت قصتي مع النحو العربي والتي غيّرت مجرى حياتي، وهي قصة طويلة عجيبة، ربما ذكرناها في مقالات تالية، لقد وجهني النحو للشعر العربي، فبدأت أقرأ كبارَ الشعراء أمثال المتنبي، وأبي العلاء، وابن الرومي، وجميل بن معمر، والملك الضليل، وأحمد وشوقي، وغيرهم.
وكان النحو سببًا في اختياري دار العلوم. كنت في صغري أقضي وقتا بمكتبة المدرسة ، وكانت المكتبات في أيامنا تعج بأمهات الكتب، أذهب لأقرأ ديوان شعر؛ لأعلم نفسي النحو، وكنت سريعَ حفظ الشعر، كنت أحفظه من القراءة الأولى حتى عهد قريب، أما الآن فقط سقط الشِّعرُ والشَّعرُ معا من رأسي.
في تلك الفترة عرفت العقاد ناقدا وكاتبا ومفكرا، أما العقاد الشاعر فعرفته في فترة تالية حين التحقت بدار العلوم، ورحلتي مع الأستاذ العقاد لا تستوعبها سطور أو ولا تنهض بها المجلدات.
ومن قراءة الشعر وحفظه كنت أشعر بنغم الأبيات؛ رغم جهلي بعروض الشعر في ذلك والوقت، وبدأت أرتجل بعض الأبيات، ثم تحولت الأبيات إلى قصائد شعرية متنوعة أيام الطلب في دار العلوم، ومنذ التخرج وحتى وقتنا هذا لم أكتب شعرا؛ اللهم إلا بعض الأبيات المرتجلة في غير موقف من مواقف الحياة.
أيقنت أني لست بشاعر، ولست أنتمي لهذا الفن ولا ينتمي إلي، مخالفا بذلك بعض الزملاء والأصدقاء الذين يرون الشعر مجرد رصّ لكلمات ( حلوة ) لها رنين ووزن، والحمد لله الذي عافانا مما ابتلى به آخرون ، وهم يعلمون، وهل يبرئ المريض أن يعلم بدائه؟!
بيد أنني وجدت نفسي مهتما بالشعر والإبداع؛ مشغولا بقضايا العربية؛ فكان اهتمامي بالنقد الأدبي، ولا أدعي أنني ناقد متخصص؛ بل عاشق في المقام الأول للأدب والإبداع، محب للعربية وفنونها.
بعد تأمل في تلك الأمنيات جميعها أيقنت أنها – كما ذكرنا – جداول متعددة تصب في محيط واحد، وإن بدت متباينة شديدة التباين؛ فالرسم ضرب من الإبداع، والطب – في ذاته – إبداع ، والعزف شكل آخر من أشكال الإبداع، والشعر إبداع، والنقد إبداع فوق الإبداع؛ ولا يظنن ظانٌّ أنه – النقد – عبء يرهق كاهل المبدع ويحط من قيمة النص؛ فذلكم هو الفهم السقيم.
إن أمنية الإنسان مفتاح شخصيته، وبوابة الولوج إلى مكنونات نفسه، وهي – الأمنية – صورة صادقة لما خلقه الله لأجله في هذه الحياة.