الأستاذ الدكتور وجيه يعقوب السيد يكتب: من عبق الماضي (الحلقة الخامسة)
(عبد الشافي سيد: واحد من أعز أصدقائي وأكبر الداعمين لي)
كان صديقي الفنان عبد الشافي سيد رحمة الله عليه عملة نادرة من الرجال، التقيته في بداية مشواري للكتابة للأطفال فكان أكبر داعم لي وخير سند خلال هذه الرحلة الطويلة والممتعة، فقد كان لمشورته ونصائحه المخلصة أثر كبير في كثير من قراراتي واختياراتي للموضوعات الصالحة للكتابة للأطفال، كان دون الخمسين حين عرفته عام 1992م وكنت أنا في مقتبل العمر شابا قليل الخبرة تخرجت للتو في قسم اللغة العربية وعينت معيدا به، يميل إلى البدانة قليلا، ويحمل وجهُه الأسمر ملامح طفل صغير لا تفارق الدهشةُ ولا الابتسامة مُحيَّاه، كما لا تفارق السيجارة أنامله لحظة، فلا تقع عيناك عليه إلا وتجده مبتسما ودخان السجائر يتطاير حول وجهه كالسحاب، وكأنه في سباق محموم مع الزمن أو قل مع الموت السريع، كان عبد الشافي فنانا كبيرا له شخصيته التي تستطيع أن تميزها بسهولة بمجرد رؤيتك لأغلفة كتبه ورسوماته المصاحبة للنصوص المكتوبة للأطفال، التي كانت تضفي عليها بهجة وجمالا وألقا، وعلى الرغم من وجود عدد غير قليل من الرسامين والفنانين الكبار والموهوبين في مجلة (باسم) آنذاك ومنهم: معلوف وفواز ودندراوي وغيرهم فقد كانت لعبد الشافي مكانته الكبيرة عند رئيس التحرير وعند زملائه جميعا، وكانت له مساحة ليست لأحد وعدد ثابت من الرسومات أسبوعيا تتناسب مع حضوره الدائم وتنوعه وسماحته وعدم اعتراضه على شيء.
كانت مجلة (باسم) – وهي إحدى إصدارات الشركة السعودية لتوزيع الصحف التي يملكها الأخوان هشام وعلي حافظ – تحتل وحدها دورا كاملا ومستقلا في العمارة التي يصدر منها سائر الصحف التابعة للشركة مثل جريدة الشرق الأوسط والمسلمون وسيدتي والمجلة والاقتصادية وغيرها من الإصدارات، وكانت المكافآت والرواتب الممنوحة للعاملين بالمجلة جيدة ومُرْضِية؛ لذلك كانت مطمحا لكثير من كتاب الأطفال والرسامين والخطاطين، وفي هذا المبنى كنت تلتقي أو تسمع بعدد غير قليل من الكتاب والصحفيين الموهوبين الذين صاروا نجوما فيما بعد من أمثال محمود سعد وبلال فضل وشريف قنديل ووائل قنديل وجمال القصاص وجمال عنايت ومؤنس زهيري وغيرهم، وكان يرأس مجلس إدارة هذه الشركة الكبيرة في القاهرة المرحوم الأستاذ محمود الشناوي الذي قدمني لمسؤولي التحرير للعمل في هذه المؤسسة سواء في جريدة (المسلمون) أو في مجلة (باسم)، وكان رجلا محسنا وطيبا وودودا وإداريا حازما وناجحا للغاية في الوقت ذاته.
وكأي وافد جديد على عمل لا عهد له به وأناس لا يعرفهم من قبل، كنتُ أشعر بالخجل والتردد وتدور بذهني أسئلة كثيرة: هل سيتقبلني هؤلاء بينهم، خاصة وهم يُشكِّلون فريقَ عمل منغلقا على ذاته؟ وأنا من النوع الذي يهتم كثيرا ببيئة العمل، فإن شعرتُ بعدم الارتياح وعدم التقبُّل فمن الصعب عليَّ أن أستمر في هذا العمل مهما كانت الإغراءات، وقد جرَّبت ذلك قبل الانتقال إلى العمل في مجلة باسم؛ حيث كنت أعمل في نفس المبنى في جريدة (المسلمون) وقدمت العديد من الكتابات واللقاءات الجيدة والمبشرة قبل أن أغادر هذه الجريدة؛ وكان سبب تركي لها هو عدم شعوري بالراحة، واختلافي مع مسؤول التحرير الذي لم يكن مبرّأ في نظري من المجاملات لبعض الأشخاص على حساب العمل والمهنية، فما كان من عبد الشافي – وكأنه كان يقرأ ما يدور بداخلي – إلا أن قام من مكانه واحتضنني وراح يرحِّب بي في حفاوة وسعادة حقيقية ويقول: أنت مكسب كبير للمجلة يا دكتور، ونحن جميعا في انتظار إبداعاتك وكتاباتك المميزة، ودار بي على مكاتب الفنانين والرسامين والعاملين بالمجلة – الذين صاروا فيما بعدُ أصدقاء مقربين لي – ليعرِّفهم بهذا الوافد الجديد وكأنه يَعرِفني منذ سنوات وليس من دقائق معدودات فقط، وكم أسرني عبد الشافي بتصرفه ونبله وحسن استقباله لي وهوَّن علي كثيرا رهبة اللقاء والمكان، وجعلني أشعر بعد دقائق أنني أنتمي إلى هذا المكان، وكثيرا ما حاولت أن أكافئه على إحسانه لي أو أجاريه في هذا الخلق وهذا الصنيع لكنني كنت أعجز عن ذلك تماما؛ فقد كان عبد الشافي مجبولا على العطاء وإشاعة البهجة والمحبة في كل لحظة ومهما كانت الظروف ودون مقابل.
مرت سنوات ونحن نعمل سويا في مجلة (باسم) وقدَّمنا معا عشرات القصص للأطفال، وأصبح عبد الشافي خبيرا بكتاباتي يُحسن وضع الرسومات والألوان المصاحبة لها، كما أصبحتُ أنا أيضا خبيرا بخطوطه وفرشاته، وكنت أترقب رسوماته المميزة والمبهجة التي تُبرز ما كتبت، وقد قدَّمنا معا عشرات القصص للأطفال لعل من أهمها: نوادر أشعب، ونوادر جحا، وأسماء الله الحسنى، ونساء مسلمات، ونجوم الصحابة، وأشبال الإسلام، وقصة آية، وغيرها من القصص التراثية والواقعية المصورة، ولم يتوقف التعاون بيننا عند هذا الحد بل استمر وانتقل إلى طور آخر أكثر اتساعا من خلال النشر في مؤسسة (سلاح التلميذ) العريقة، ولا أنسى لعبد الشافي أنه كان سببا في انتقالي للعمل بهذه المؤسسة الكبيرة؛ فذات يوم قال لي: كتاباتك مميزة وسهلة وهي مناسبة للطفل من حيث اللغة واختيار الموضوع وطريقة المعالجة، ويجب أن تخطو خطوة أخرى وتكون لك وجهة أخرى غير المجلة وتتجه للكتاب المطبوع، فالمجلة مهما كان انتشارها ومردودها المادي فسيأتي يوم وتكون طي النسيان، لأنها تتجدد على العكس من الكتاب الذي نحتفظ به في مكتباتنا، وأنا واثق أن العشرات من دور النشر سترحب بنشر كتاباتك، وأضاف: سأرتب لك لقاء مع الأستاذ حمدي مصطفى رئيس مجلس إدارة سلاح التلميذ في أقرب وقت ممكن، وأنا على يقين أن كتاباتك ستنال إعجابه وأنك ستكون واحدا من كتاب المؤسسة المُهمِّين، ولم يكتف بذلك بل اقترح عليَّ أن أكتب عن شخصية بعينها وهي شخصية أشعب الطماع، على ألا يزيد عدد كلمات القصة عن ألف كلمة، وقال: شخصية جحا استُهلكتْ، فلتجرب الكتابة عن أشعب، وهو شخصية عربية وثرية للغاية ولم يكتب عنها أحد للأطفال على حد علمي، وعدتُ إلى المنزل في ذلك اليوم سعيدا للغاية بهذه المحبة وهذا الإخلاص أكثر من سعادتي بما كان ينتظرني من نشر أعمالي في دار نشر كبيرة كانت وقتها في عصرها الذهبي، وشمَّرتُ عن ساعد الجد وجمعت عددا كبيرا من قصص أشعب الطماع من كتاب المستطرف والأغاني وكتاب البخلاء وغيرها من الكتب التراثية والمعاصرة، وقد عثرت وقتها على قصة طريفة للغاية كتبها الأستاذ توفيق الحكيم عن شخصية أشعب الطماع، وقد استباح الحكيم لنفسه – قصصيا وفنيا – أن ينسج حكايات عن أشعب تتعلق بالطمع والفضول حتى وإن لم تكن موثقة وثابتة عنه في المراجع التاريخية، كما ربط بين هذه الحكايات المتناثرة فجاء عمله على شكل قصة ذات حبكة محكمة ومشوقة، وقد أفادني ذلك كثيرا بلا شك؛ حيث لم أركز على الصدق التاريخي في شخصية أشعب، وإنما انصب اهتمامي على تقديم نموذج أدبي له ملامح معينة وهدف يسعى دوما لتحقيقه: وهو الظفر والنجاح في الوصول إلى الموائد مهما أغلقت الأبواب في وجهه، على أن يكون ذلك في قالب كوميدي ساخر ولا يخلو أحيانا من بث الحكمة والعظة بصورة غير مباشرة في ثنايا القصة، وقبل أن أذهب لمقابلة الأستاذ حمدي مصطفى أَطلعتُ الأستاذ عبد الشافي على ما كتبت فقال لي: هايل هذا ما أريده بالضبط، وتجاذبنا أطراف الحديث حول ملامح الشخصية وغير ذلك من التفاصيل، وبعد أيام التقيت بالناشر الكبير الأستاذ حمدي مصطفى – وسأقص تفاصيل هذا اللقاء وما تم فيه في موضع آخر بإذن الله تعالى – وتمت الموافقة على هذه السلسلة وأُعجِب بها الأستاذ جدا، واتفقنا على نشرها في سلسلة تحمل عنوان: نوادر أشعب وقد نُشر منها حتى الآن نحو ثلاثين قصة برسومات مميزة للصديق العزيز الأستاذ عبد الشافي سيد بطبيعة الحال، وقد لاقت السلسلة نجاحا كبيرا بفضل الله تعالى؛ فقد رأيتها في مكتبات كثيرة في الخليج وفي يد قراء من هنا ومن هناك، وراسلني أصدقاء من المغرب ومن الجزائر ليُعبِّروا عن إعجابهم بها وبغيرها من السلاسل التي توالى نشرها في المؤسسة بعد ذلك، وأذيعت حلقات عنها في بعض محطات التلفزيون المصري، وحولَّها بعض أصحاب المواقع الإلكترونية – بدون إذن من الناشر أو المؤلف – إلى أعمال فنية حققت نسبة مشاهدات عالية، ويرجع الفضل في ذلك – بعد الله تعالى – إلى الصديق الأعز عبد الشافي سيد الذي شرُفتْ معظم كتبي بوضع اسمي إلى جانب اسمه.
توطدت علاقتي بعبد الشافي رحمة الله عليه مع مرور الأيام، ولم يكن العمل بطبيعة الحال هو كل ما يربطنا، فقد كان عبد الشافي رجلا حكيما هادئ الطبع رزينا صاحب خبرة وتجربة كبيرة في الحياة؛ فكنت أستشيره في كثير من الأمور التي تخصني وأرجع إليه في كثير من المشاريع التي أنوي القيام بها، فكان رحمة الله عليه لا يخذلني أبدا، وكان عبد الشافي شهما صاحب مروءة ونخوة لا يراك في موقف يحتاج مساعدة أو نصيحة إلا وبادر بتقديمها؛ أذكر أنني كنت متزوجا حديثا عندما عملت بمجلة باسم، وكنت أقضي وقتا كبيرا في العمل في الجامعة وفي الكتابة للأطفال حتى أزيد دخلي وأوفر لأسرتي احتياجاتها، وقد جهزت بيت الزوجية بما تيسر لي حينها، وبقيتْ بعض الكماليات التي أجَّلْتُ شراءها لبعض الوقت، ومن بينها خط الهاتف الأرضي والتلفزيون وأشياء من هذا القبيل، وكان عبد الشافي دائم السؤال عن أحوالي وما أحتاج إليه وما ينقصني، وحين علم بعدم وجود هذا الأشياء التي أعتبرها أنا من الكماليات في البيت، قال لي: أنت تقضي وقتا طويلا خارج المنزل في الكلية وفي العمل، ولا شك أن وجود التلفزيون في بيتك من الأشياء الضرورية حتى لا تشعر زوجتك بالملل، فلما أخبرته أنني أنوي شراء التلفزيون بعد عدة أشهر عندما يتيسر لي ذلك أخرج من جيبه مبلغا من المال وقال لي: ولماذا تنتظر كل هذا الوقت، اذهب إلى شارع عبد العزيز اليوم ولا ترجع إلى بيتك إلا ومعك التلفزيون، وعندما تأتيك النقود ردها إليَّ يا سيدي، ولم أملك أمام إصراره أن أرد له طلبا، وفعلت ما أشار به عليَّ، وبعد مدة قال لي أيضا: التليفون بالنسبة لنا ولمن يعمل في هذا المجال أهم من الطعام والشراب، فمن الغد اذهب إلى السنترال واطلب تركيب تلفون فوري مهما كان سعره، ونفذت ما قاله لي هذا الصديق الوفي والأخ الذي لم تلده أمي، ولكن المواقف كانت كفيلة بأن تضعه في هذا المقام، وقد لمستُ أهمية نصحه لي وجنيت ثمرة ذلك في كثير من المواقف التي مررت بها، ومن خلال دور النشر المختلفة التي تعاملت معها.
كان عبد الشافي أبا حنونا جدا ومثالا يُحتَذى في معاملة أولاده الصغار؛ فقد كان لديه ثلاثة من الأبناء في أعمار مختلفة، وكان يصطحبهم معه أحيانا إلى مقر المجلة، فكان لا ينشغل بأحد ولا بشيء عنهم، وكان طوال الوقت الذي يقضونه معه في المجلة يعاملهم كما لو كان طفلا مثلهم؛ فيُغنِّي معهم أغاني الأطفال رافعا صوته بصورة عفوية ودون مراعاة لعمر ولا مقام ولا لأي شيء سوى رغبته في إدخال البهجة إلى قلوبهم، وكنتَ ترى السعادة في وجوههم وكأنهم خرجوا في نزهة ورحلة لا يريدون لها أن تنتهي، ومن المفارقات العجيبة أنه قد حدثني قبيل وفاته بأنه ذهب إلى الطبيب فنصحه بالإقلاع عن التدخين فورا واتباع نظام صارم في الحِمية من أجل تخفيف وزنه وإلا فإن حياته ستكون في خطر، وقال لي: من أجل أولادي أنا مستعد أن أفعل أي شيء، ورغم أن فكرة الإقلاع عن التدخين أمر في غاية الصعوبة لكنني سأمتثل لأمر الطبيب حتى لا يصبح أولادي أيتاما بلا أب يرعاهم، وقد شجعتُه بشدة على هذا الفعل وكنت أدعمه في هذا الرأي تماما، ومن وقت لآخر كنت أذكره بكلامه لي وحبه لأولاده وحاجتهم إليه عندما أرى أن لديه رغبة في العودة إلى التدخين من جديد، على أن قاصمة الظهر جاءته من غير سبيل التدخين ومن حيث لم يُتَوقَّع؛ فقد رُزئ بموت أصغر أولاده وأحبهم إليه وأقربهم شبها به في حادث مفجع؛ حين كان يلعب أمام مكتبه ومكانه المفضل الذي يقضي فيه معظم وقته ويكمل فيه عمله بعد مغادرته المجلة، ليصبح بعدها عبد الشافي جسدا بلا روح، وليرحل إلى ربه في هدوء وصمت وحزن يفوق طاقته على الاحتمال، وكان ذلك بعد موت ابنه بسنوات قليلة عام 2011م بعد تنحي مبارك عن الحكم في خطاب التنحي الشهير، ولا أنسى كلامه لي وقتها وهو يبدي تفاؤله بالأوضاع في مصر بعد تنحي مبارك، لكن عبد الشافي مات رحمة الله عليه قبل أن يرى باقي فصول القصة، مات نقيا صابرا راضيا محتسبا نظيف القلب عف اللسان، مات رحمه الله وترك بقلوبنا غصة وحزنا شديدا، وشعرت بأنني فقدت للأبد سندا قويا وصديقا مخلصا وإنسانا نبيلا كانت مكالمة قصيرة بيني وبينه كافية لتزيل جبلا من الهموم التي تحاصرني، رحم الله الصديق الإنسان والفنان المبدع عبد الشافي سيد وأسكنه فسيح جناته وجمعنا به في مستقر رحمته.