الأستاذ الدكتور وجيه يعقوب السيد: تقريب المصطلح النقدي
تقريب المصطلح النقدي
بقلم: الأستاذ الدكتور وجيه يعقوب السيد
تهدف هذه السلسلة إلى تقريب المصطلح النقدي وتيسير فهمه على الدارسين، خاصة شباب الباحثين وغير المتخصصين في دراسة النقد الأدبي، وسنحاول أن نجمع في هذه السلسلة بين المعرفة النظرية والجانب التطبيقي لهذه المصطلحات، ولا شك أن تحرير المصطلح وفهمه فهما دقيقا يُوفِّر على الباحث والدارس كثيرا من الوقت والجهد، ويجنبه الدخول في اشتباكات ومعارك لا طائل من ورائها بسبب غموض المصطلح، على أن المعرفة النظرية وحدها لا تُغني عن مواجهة النص الأدبي ومقاربته مقاربة فنية تظهر مهارة الناقد وتمكنه؛ فكم من ناقد وعد قارئه في مقدمة دراسته أنه سيطبق هذا المنهج النقدي أو ذاك، ومع ذلك نجده يخفق عند مقاربة تلك النصوص ويعجز عن تطويع الأدوات والإجراءات الخاصة بالمنهج الذي تبناه لإظهار جماليات النص، ويجب أن نضع في الحسبان أن هذه المناهج مهما كانت درجة انضباطها فهي مسخرة بالأساس لخدمة النصوص الإبداعية وليست قيودا تفرض عليها ولا على مبدعها، ومن ثم يجب أن تطبق تطبيقا ينم عن ذوق الناقد وثقافته وفهمه لطبيعة الأدب!
(المفارقة)
من المصطلحات التي انتشرت في الفترة الأخيرة مصطلح المفارقة، وهناك دراسات كثيرة مؤخرا حول المفارقة في الشعر والمسرح والرواية وفي القرآن الكريم، ومفهوم المفارقة كما يرى كثير من النقاد مفهوم مراوغ، يصعب على الباحث تحديد ما يعنيه بدقة، وقد أشار إلى ذلك جوزيف دان في كتابه عن النقد الأسطوري للمفارقة، حيث يرى أنه “لا يوجد مفهوم دقيق أو واضح لكلمة مفارقة، كما أنه لا توجد قراءة صحيحة يمكن الوثوق بها – على مر التاريخ – عن المفارقة”
ويعد دي سي ميويك واحدا من أبرز النقاد الذين قدموا دراسات تفصيلية عن المفارقة، وهو يشير إلى صعوبة أخرى تواجه دارس المفارقة؛ حيث ترتبط هذه التقنية بالبيئة التي أنتجتها وبالثقافة التي نشأت فيها، وكذلك بالمتحدث الذي يُنشئ هذه المفارقة، ومن ثم لا تكون لدينا مفارقة واحدة بل عدد لا حصر له من المفارقات ” فما كانت تعنيه المفارقة في الماضي يختلف عما تعنيه اليوم، وما تعنيه في بلد قد لا تعنيه بالضرورة في بلد آخر، وما تعنيه لرجل الشارع ليس هو نفس ما تعنيه للطالب المتخصص في قاعة الدرس، وما تعنيه لدى باحث ما ليس هو ما تعنيه لدى باحث آخر”
لذلك لا يتوقع الباحث في جماليات المفارقة أن يصل إلى مفهوم واضح ومحدد لهذا المصطلح، شأنه في ذلك شأن كثير من المصطلحات الأدبية والنقدية، ومن بين التعريفات الكثيرة التي أوردها النقاد الغربيون من أمثال: فريدريك شليكل، وأوجست شليكل، ودي سي ميويك، وصموئيل جونسون، وصموئيل هائنز، وآلان رودي، ورولان بارت، وماكس بيربوم وكذلك لدى البلاغيين الجدد، نورد هذه التعريفات التي ضمها معجم أكسفورد ومنها:
” المفارقة هي إما أن يعبر المرء عن معناه بلغة توحي بما يناقض هذا المعنى أو يخالفه، ولا سيما بأن يتظاهر المرء بتبني وجهة نظر الآخر، إذ يستخدم لهجة تدل على المدح، ولكن بقصد السخرية أو التهكم، وإما هي حدوث حدث أو ظرف مرغوب فيه، ولكن في وقت غير مناسب البتة، كما لو كان في حدوثه في ذلك الوقت سخرية من فكرة ملاءمة الأشياء؛ وإما هي استعمال اللغة بطريقة تحمل معنى باطنا موجها لجمهور خاص مميز، ومعنى آخر ظاهرا موجها للأشخاص المخاطبين أو المعنيين بالقول”
ويقول ميويك:” المفارقة هي قول شيء بطريقة تستثير لا تفسيرا واحدا، بل سلسلة لا تنتهي من التفسيرات، والمفارقة بهذا المعنى طريقة في الكتابة تريد أن تترك السؤال قائما عن المعنى الحرفي المقصود: فثمة تأجيل أبدي للمغزى”
أما في معجم الأسلوبية، فقد اعتبرت كاتي والز المفارقة تقنية فنية وحيلة تعبيرية، يلجأ إليها الكاتب حين لا يريد أن يصرح بمقصده، وهي بذلك تقنية قديمة ومعروفة لدى الكتاب السابقين، لأن الأدب لا يخلو منها على مر العصور كما أشرنا من قبل “فالمفارقة نوع من أنواع الكنايات وهي مشتقة من الكلمة اليونانية EIRONICA وتعني التظاهر، وتوجد المفارقة عندما تعني الكلمات المستعملة في نص ما عكس ما جاءت عليه في السياق بشكل مقصود مثل قولنا: (يا للطقس الرائع) عندما تكون ممطرة، فهذه المفارقات لا تؤخذ بمعناها الحرفي وإنما تُحمَل على السخرية، فهي إذن نوع من النقد المهذب، وما لم تفهم على هذا النحو فإن هدف المفارقة يضيع”
وهذه التعريفات الكثيرة والمتنوعة للمفارقة تظهر مدى التطور الذي لحق بمفهوم المفارقة، إذ لم تعد المفارقة مجرد استعراض لغوي وقدرة بلاغية، كما أنها تلقي الضوء – في الوقت ذاته – على جملة من الخصائص يجب أن تكون في النص الذي يتسم بالمفارقة، وهذه الخصائص كما أجملتها الدكتورة نبيلة إبراهيم في بحثها عن المفارقة هي:
“أولا: وجود مستويين للمعنى في التعبير الواحد، المستوى السطحي للكلام على نحو ما يعبر به، والمستوى الكامن الذي لم يعبر عنه.
ثانيا: لا يتم الوصول إلى إدراك المفارقة إلا من خلال إدراك التعارض أو التناقض بين الحقائق على المستوى الشكلي للنص.
ثالثا: غالبا ما ترتبط المفارقة بالتظاهر بالبراءة، وقد يصل الأمر إلى حد التظاهر بالسذاجة والغفلة.
رابعا: لا بد من وجود ضحية في المفارقة، وقد تكون “أنا” الكاتب هي الضحية، وقد تكون الضحية الـ “أنت” أو الآخر، وأيا ما كانت هذه الشخصية فهي ضحية متهمة وبريئة”
ومن خلال هذا الاستعراض السريع، يمكن القول إن مصطلح المفارقة وإن لم يرد بلفظه في الأدب القديم، ولكن جرى استعماله لدى الأدباء والمبدعين تحت عناوين ومعان أخرى تؤدي نفس الدور، فهناك التهكم والسخرية والتعريض وتجاهل العارف وتأكيد المدح بما يشبه الذم وتأكيد الذم بما يشبه المدح وغير ذلك من الألفاظ المعروفة.
(أهمية المفارقة)
بدأت نظرة الأدباء والنقاد إلى الأدب تتغير مع ظهور المدرسة الشكلية، إذ أصبح اهتمامهم منصبا على الشكل بدلا من المضمون، حيث كان يتبوأ مكان الصدارة ويحظى بتقدير جل النقاد، وأكد الشكلانيون على أدبية الأدب وأنه فن لغوي في المقام الأول لا مجرد مرآة للمجتمع أو ميدان للتصارع بين الأفكار، ومن ثم وجهوا اهتمامهم إلى الشعر لا إلى الشاعر، أي على الأعمال الأدبية نفسها، لا على جذورها أو آثارها.
ويبقى المعنى على أهميته في العمل الأدبي معنى مجازيا، كما يشير الدكتور محمود الربيعي ” فالمحور الأساسي في العمل الأدبي الإبداعي هو الشكل اللغوي الذي يأخذه، وذلك لأن الأدب تشكيل لغوي في نهاية الأمر. ولهذا ينبغي أن يكون المدخل إلى فهمه وتحليله وتقديره مدخلا لغويا”
وإذا كان الأمر على النحو الذي بيَّنا فإن أهمية المفارقة في الأدب تكمن في كونها إحدى الصيغ والتقنيات المهمة المتبعة في تشكيل النص الأدبي، كما أنها بالنسبة للناقد أداة مهمة تساعده في تقديم قراءته للنص الأدبي من داخل النص ذاته، بدلا من الاحتكام إلى مبادئ وأسس ليست نابعة من صميم العمل الأدبي، وهي بذلك وثيقة الصلة بالنص الأدبي ذاته، وعميقة الارتباط بالمبدع واختياراته، يقول ميويك:” إن الفن جميعا، أو الأدب جميعا يتصف بالمفارقة من حيث الجوهر أو بالرأي القائل: إن الأدب الجيد جميعا يتصف بالمفارقة. يقول جوته: إن المفارقة هي ذرة الملح التي – وحدها – تجعل الطعام مقبول المذاق”
وبذلك، تكون المفارقة من العناصر المهمة التي تنأى بالأدب عن المباشرة والتقريرية التي طالما شكا منها النقاد وتدخله في دائرة العمق وتعدد المعنى، لأننا في المفارقة ” نتوصل إلى فهم المعنى المقصود، ليس من خلال ما يدل عليه لفظا، بل بما يكمن في اللفظ الذي قيل من معنى لم يدل عليه القول”
إن المفارقة ليست مجرد وسيلة يزين بها الكاتب نصه فحسب، وإن كانت الناحية الجمالية هدفا منشودا في حد ذاته، لا بل إنها وسيلة لتعميق الرؤية، ومحاولة سبر أغوار الواقع، الذي قد يبدو بسيطا أو متوافقا، في حين يكتشف الباحث المتعمق تعقده وتشابكه إلى درجة يصعب معها فهم كثير من التناقضات، فضلا عن محاولة حلها.
ومن الأشياء المهمة التي تؤديها المفارقة في النص الأدبي، ظاهرة التخفي والتستر، فلأنها تقوم على اللعب على المعنى المزدوج، ومن ثم احتمال تعدد فهم المعنى، فقد وظفها الأدباء في بعض الحقب السياسية المظلمة من أجل التعبير عن القضايا السياسية والاجتماعية الشائكة. فقد وظف كتاب جيل الستينيات هذه التقنية بنجاح من أجل خداع الرقابة والسلطة ” فالمفارقة بذلك هي طريقة لخداع الرقابة، حيث إنها شكل من الأشكال البلاغية التي تشبه الاستعارة في ثنائية الدلالة. فالمفارقة في كثير من الأحيان تراوغ الرقابة بأنها تستخدم على السطح قول النظام السائد نفسه، بيد أنها تحمل في طياتها قولا مغايرا. وتستخدم المفارقة في نهاية المطاف عندما تفشل كل وسائل الإقناع وتستهلك الحجج، ويخفق النقد الموضوعي؛ فعندئذ تظل المفارقة هي الطريق الوحيد المفتوح أمام الاختيار”
ويجمل ماكس بيربوم أهم أهداف المفارقة في قوله:” إن هدف المفارقة إحداث أبلغ الأثر بأقل الوسائل تبذيرا” وبذلك تؤدي المفارقة دورا كبيرا في أحد أهم المبادئ الأسلوبية والجمالية التي تقوم عليها صنعة الرواية، وهو مبدأ الاقتصاد وعدم الإسراف في استعمال اللغة. حيث يضمن الاقتصاد في الوصف واللغة ” عدم تكرار المشاهد المتجانسة لما في ذلك من إضعاف لقدرتها النموذجية وتمثيلها لما عداها. فإذا تكررت دون إدخال معامل جديد يؤدي إلى تطوير المواقف من داخلها، لم يكن ذلك إهدارا لمبدأ الاقتصاد الجمالي فقط، بل يصبح تثليما لحدة المواقف المسنونة وتمييعا لتأثيرها بأثر رجعي لدى القارئ يضعف من دراميتها وقدرتها على مفاجأة الفجيعة ”
[للحديث بقية]ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
Linda Hutcheon: Irony, sedge- the theory and politics of irony, first published 1994, Routledge, London, page: 9
السابق: نفس الصفحة
د. خالد سليمان: المفارقة والأدب ـ دراسات في النظرية والتطبيق، ص 14.
دي سي ميويك: المفارقة وصفاتها، ص 43.
Katie Wales: Dictionary of Stylistics, Longman, London And New York, 1989,, page:263.
د. نبيلة إبراهيم: المفارقة، مجلة فصول، المجلد السابع، العددان الثالث والرابع، أبريل 1987، ص 133.
يمكن الرجوع إلى ما كتبته الدكتورة نبيلة إبراهيم والدكتور خالد سليمان والدكتور محمد العبد في هذا السياق. وهي مسألة تاريخية نكتفي بالإشارة إليها في هذا المجال.
د. محمد عناني: المصطلحات الأدبية الحديثة، لونجمان، القاهرة، ط 2، 1997، ص 69.
د. محمود الربيعي: قراءة الشعر، مكتبة الزهراء، 1985، ص 122.
دي سي ميويك: المفارقة وصفاتها، ص 16.
د. خالد سليمان: المفارقة والأدب، ص 15.
د. سيزا قاسم: المفارقة في القص العربي المعاصر، ص 143.
دي سي ميويك: المفارقة وصفاتها، ص63.
د. صلاح فضل: أساليب السرد في الرواية العربية، هيئة قصور الثقافة، كتابات نقدية، العدد ـ 36 ، ـيناير 1995، ص 92.