” الأبعاد الإنسانية في شعر يحيى عبد العظيم دراسة موضوعية وفنية ” (2)

بقلم: الباحث العراقي وسام أسعد ذياب
توطئة
بما أَنَّ هذا الكون كلّهُ خُلِقَ مِن أجل الإنسان، لذا يعدُّ الإنسان هو السمةُ العليا فيه؛ لأنّهُ يُمثلُ جوهر الحياة وفكرها الاجتماعي الأهم في هذا الوجود، والشعر كما عرفناهُ هو المحرك والباعث الإنساني ، إذ الإنسان ينبع من ذاتيته ووجده وعقله وجميع خلاياه وملكاتهِ، لذا نقول: إنَّ الشعر مرتبطٌ بالأبعاد والنزعةِ الإنسانية ارتباطاً وثيقاً، تلك الأبعاد الروحية المهمة والتي لا يمكن أَنْ تنفصل عن الشعر؛ لأنّ مِن مهمات الشعر ووظائفه الأولى هي الاهتمام والدفاع عن الإنسان وإنسانيته وقضاياهُ، واظهار جوانب نزعاتهِ النفسية، ومما لاشك فيه (أن الشعر الوجداني تعبيرٌ صادقٌ عما يدور في خلجات وذهن ونفس الشاعر)( ). وشاعرنا يحيى عبد العظيم كانَ يعيشُ حياةً فيها واجبٌ شرعيٌ وأخلاقي حتمَّ عليهِ أَنَّ يهتم بالآثار والعوامل التي تؤجج نزعاتٍ نفسية إنسانية على مختلف الاهتمامات منه…
أما الشاعر تمثلت غربتهُ تلك كبُعدٍ إنساني، لا بُدَّ مِن اظهارهِ وعلى مستواهُ الحقيقي، ليصل بهِ المتلقي ذروة التعايش مع حُزنه ومعاناتهِ، لقد أنشَدَ حُزنهُ إلى آفاقٍ عالية وعوالم إنسانية أُخرى، وهو ينشدُ قصيدة (عاشق) يقول( ) : مِن الكامل:
الفراشاتُ التي عند الحديقة
ينتظرن حضور عاشق
يرتشفن الشاي واليانسون
تحتَ ظلال أوراق البنفسج
والقرُنفل
والزهور
حتى إذا مرَّ
أتكأن هنيهة
علّ المسافر
أن يعودَ
وأن يميلَ بقلبهِ
فوقَ الخدود
إن الأضاءاتِ الموجودة في هذهِ القصيدة عبرت عن الغربة والانتظار ، يقول: (الفراشات) وهي دليل الانتقال من مكانٍ لآخر، (ينتظرن) وهي دليل على مدة الوقت، (حضور)، (علَّ المسافر يعود)، كل تلك الكلمات التي اختارها في إشارةٍ للاشتياق والعودة، لقد تحقق الاغتراب في نفسه كما يُعبرّ عنهُ الطربولي: (حالةٌ نفسيةٌ تصورُ مدى إنعدام السلطة والانخلاع عن الذات والأشياء، أو التذمر والانعزال والعداء، وانعدام المغزى في واقع الحياة والاحباط) ( )، وهذا الرأيُ يمكن أَنْ نتفق مع جزئهِ الأول، أما أَنَّ الاغتراب يسببُ الاحباط، فيرى الباحث أنّهُ على العكس ربما يسببُ حالةً مِن الإبداع وبذلك يكون الاغتراب بُعداً إنسانياً لدى المبدع وخصوصاً الشاعر ليجعل مِنهُ موضوعاً لادامة الصلة بينهُ وبين المتلقي، مِن خلال ما يحملهُ التصور مِن حالةٍ إنسانية عالية القيم.
يوضح هذا قول شاعرنا في قصيدته (النهار) بقولهِ من المتقارب( ):
لماذا…
إذا اشتقتُ غنيتُ بإسمكِ؟
لماذا …
إذا أوجَعَ الهَجَرُ غنيتُ حُبَّكِ؟
مثل العصافير يقتُلها الشوق
فتحمُلها الريح مِن دمعها للفراقِ
إلى لذةٍ
في ربوع النخيل؟
هذا ما فعلته الغربة حين يشتاق، يغني باسم محبوبتهِ، ومعشوقتهِ مصر، وحين تشتد أوجع الغُربة يُبدعُ في غناء لحن الحُب، ثم تطيرُ نفسهُ كأنها عصافير تشتاق إلى أعالي النخيل والأشجار، إنَّ استخدام الاستعارات البلاغية، والصور الشعرية، جعل مِن القصيدة ذات طابعٍ إنساني.
خاتمة القول: إنَّ هذا الغرض الشعري ليحيى عبد العظيم الشاعر فيه علامةُ ظاهرة؛ لأن ظاهرة الحُزن والشكوى باعتبارها بُعداً إنسانياً جاءت نتيجة الادراك الواعي لدى شعراء العصر الحديث ، لأنه عاش في زمنٍ فيهِ الكثير مِن القهر والعنف والكذب والخداع والغربة والضياع فجاءت اشعارهُ حزينة وذات تعبيرٍ منسجم مع الواقع الحالي، عبّر في قصائده عن صرخةٍ وصيحةٍ ، وهذا كلهُ بسبب قضايا الإنسان المعاصر الأليمة فكانت سبباً في حدةِ التوترِ والقلقِ فلامست نفسهُ فحولها بشعرهِ إلى فلسفاتٍ وأبعاد إنسانية يمكن أَنْ تُرى في الوجود، ويرى الباحث قد ازدوجت مع شعرهِ الآفات الواقعية مع ذاتية الشاعر ووجدانه. من أجل واقعٍ ملؤه الابتسامة والتفاؤل والأمل وتحقيق ظاهرة الإنسانية والأخاء التي نفتقدها.
ثانياً: الغزل
إنَّ ظاهرة الحب مِن أعظم القيم وأسماها علواً ورفعةً، وهذا مما لاشك فيهِ لأنّ الحب سمةٌ ذاتية ووجدانية وفكرية ومادة دسمة لما حواهُ شعرنا العربي بين دفتيه على مر التأريخ والعصور، فالاحساسُ بالحب والعاطفة الملتهبة والجياشة أضاف إلى القصيدة العربية أبعاداً إنسانية واسعة المضمون ومختلفة الزوايا والاتجاهات والجوانب( )، ولعلّ أكثر موضوع يثيرهُ الشعر العربي هو الغزل بوصفه من الأغراض الشعرية المتجذرة في الشعر العربي منذُ الأزل، وقد تناولهُ الشعراء العرب القدامى تقديراً منهم للحب والمرأة، وكذلك لشعورهم بعظم العاطفة في نفوسهم وتقديساً لها. وفي هذا الغرض يقول سامي الدهان: (الغزل ألصق الفنون الأدبية بحياة الرجل والمرأة ، وهو أشهرها وأكثرها رواجاً وإمتاعاً ) ( ) وقد قيل أَنَّ أشهر بيتٍ شعري في الغزل لابن حزم
الاندلسي: من الطويل
وددتُ بأن القلب شُقَّ بِمُديَةٍ
وأُدخِلتِ فيهِ ثُم أُطبِقَ في صدري
تعيشِينَ فيهِ ما حييتُ، فإن أَمُتَ
سكنتِ شِغافَ القلبِ في ظُلَمِ القبرِ( )
وقد وجدنا الكثير مِن الشعراء في إظهار عواطفهم تجاه المحبوبة فمنهم مَن كان يعزف على أوتار الحب بأعذب الألحان وأشجاها وقعاً في النفس ونوازعها، ومنهم مَن مات على الحُب، ومِنهم مَن ظلت النار تحرق قلبهُ جويً وعشقاً، وغيرهم الكثير ممن رفعوا لواء الحب، وخلفوا لنا إرثاً عظيماً مِن أشعارهم في الغزل، ثُم جاء بعدهم الشعراء الرومانسيون المحدثون فحملوا الراية في التفنن بالغزل واظهار تلك النزعة والبعد الإنساني في نفوسهم بأعذب الأشعار، وقد حظي شعر يحيى عبد العظيم بالكثير مِن القصائد الغزلية ، راعى فيها كُلَّ ما يخدش الحياء، فالمرأةُ عنده ذات قيمةٍ روحية تعامل معها وكأنها الهواء الذي لا يستطيعُ العيش من دونهُ، فكانت تجربتهُ تجربةً روحية ، يقول في إحدى قصائدهِ وهي مِن (الكامل) قصيدةُ مُكابدةٌ( )
وأنا الموله والمدلَّهُ
في فضاءاتِ الحنينِ
إلى عيونكِ والأنينِ
وأنا الذي
ما كنتُ أعشقُ غيرَ روحكِ
نَظرةً أو جمرةً
تختالُ في جنبي
مِن لهفٍ
ومِن رهفٍ
تروحُ إلى الشفاهُ ولا تبين
نارٌ شفاهُكِ
جذوةٌ لا تنطفي
الحقيقة أَنَّ شاعرنا في قصيدته عَبر عن خلجات نفسه تجاه محبوبتهِ وبدأ القصيدة (بالأنا) وتلك هي عادة الشعراء الرومانسيين إظهار مخبوئات النفس، ثم وَصفَ نفسهُ بالعاشق الذي فقد عقلهُ وأصبح كالمجنون بسبب الحبيبة، تائهاً في عالمه المثالي تعلو صدرهُ زفرات الاشتياق إلى عيون الحبيبة وصوتها، ثم يعاود شاعرنا بتكرار الضمير (أنا) وهو يتحدث عن نفسهِ قاطعاً وعدهُ لحبيبتهِ نافياً أنه لم ولن يحب غيرها، وهذا الأمر هو ديدنُ كل العاشقين حين يبدي الشاعر لحبيبتهِ الوفاء والإخلاص والتعبير الصادق عن مشاعر الوفاء والولاء لمحبوبتهِ( )، ثم يعرج بدلالة ألفاظه ليقول لمعشوقتهِ ويستجديها بنظرةٍ تحرقُ جوانب قلبه كأنها جمرةٌ مستعرة مِن شدة لهفهِ عليها، وعلى ما يبدو في لغةِ القصيدةِ البساطةُ والصفاء وصدق العاطفة، وجاءت ذات موسيقى سهلة تحمل كل معاني الشوق والحب والغزل في تناغم متآلف ومتوائم ومتناسق صادر عن أنفعالٍ إنساني من قلب متشوقٍ لحرارة اللقاء ، بالأضافة إلى خيالهِ وأسلوبه في التعبير فهذا هو حال الشاعر الوجداني العربي، يعبرُ عن حبه للمرأة بعاطفة إنسانية خالدة. ( )
أما في المقطع الآخر من أسطر القصيدة فقد استعمل في غزلهِ ألفاظاً سهلة وممتعة وقريبة إلى النفس يقول( ): من الكامل
فالمواجيدُ اشتياق
يا أبتسامةَ عُمريَ الخفاق
في ألقِ السنين
عشقٌ يذوبُ في الفؤاد
حنينهُ وأنينهُ
ويُمزقّ الأستار
بسملة وحوقلة وهمهمة
ويهمسُ عاشقاً
للحور في عليا الجنان
وهنا نطرح سؤالاً مهماً إلى أي مدى استطاع شاعرنا أَنْ يجعل تجربتهُ الشعرية الحديثة تحمل أبعاداً إنسانية في قراراتها ورؤيتها؟ وهذا ما سنحاول أَنْ نوضحهُ بالدليل، إنَّ غزل الشاعر المصري يحيى عبد العظيم كان عفيفاً، لم تدفعهُ عاطفتهُ ولا انفعالتهُ لكسر طوق الحياء وذلك واضحاً في اختياره للألفاظ بدقة واهتمام ، ولعل من الأسباب الأُخرى هو نشأتهُ الدينية والقروية حيث المجتمع المبني على القيم والتقاليد التي لا تسمح أحياناً حتى بذكر اسم المرأة، وهذا ما يختلف به الشعر الحديث عن الشعر القديم في اظهار غرض الغزل كبُعدٍ إنساني، على عكس وظيفتهِ في قصائد الجاهليين الذين جعلوا الغزل لقصائدهم كعرفٍ سائد بين الشعراء، وللعودة مرة أُخرى للقصيدة، فقد عبر الشاعر عن أحزانهِ بأنها اشتياق ومنادياً للمحبوبة التي سماها (ابتسامة العمر)، وهي جملة مُركبة قريبة من النثر العادي للناس حين تشتد عاطفتهم فيتخذ كلامهم ايقاعاً يقترب من ايقاع الشعر، وهي تنمية بذور موجودة في صميم الانفعال البشري فينشأ طبيعياً لا كلفة فيه وهذا هو شأن الفن الصادق، ما يميز لغة الشعر( )، لقد ضمّن شاعرنا قصيدته بالألفاظ الدينية (بسملة، حوقلة، الحور، الجنان وغيرها..) وهذا ما يبرز تأثرهُ بالبيئة الدينية كما ذكرنا سابقاً، لقد تعددت بواعث الغزل عند شاعرنا مِنها بواعث اجتماعية وبواعث حضارية جديدة مرتبطة بالبيئة وكُلها مترابطة ومتناسقة ومتداخلة، وذلك لأن الباعث الاجتماعي (هو السلوك والعلاقات مع الآخرين) ( ) أما الباعث الديني فهي النشأة في رِحاب القرية، أولاً، ومِن ثم الانتقال إلى البيئة الجديدة إلى المملكة العربية السعودية، وأما الباعث الحضاري فهو متمثل في تطور الحياة ومُدنها وازدهار عمرانها على كافة الأصعدة، يقول في قصيدة (تمتمةُ الوجد) ( ): وهي مِن بحر (متقارب)
صدرُك
متكأ للحنين
وزنبقةٌ التوق
إذ يهيمُ الفؤاد
وينشق عطرُ البنفسج
زهر القرنفل
اوضوعه
من عبير الشموخ
فروحٌ لروح
وتمته الوجد
لا تستيغُ القروح
وفي هذه الغزلية نرى بُعداً سطحياً للغزل تمتزج فيهِ الطبيعة وبكثرة، فنشاهد الشاعر يكثرُ مِن مفردات الطبيعة حيث يقول: (زهرة القرنفل، وزنبقة التوق) وكذلك (عطرُ البنفسج) والملاحظ هنا أَنَّه قد جعل غزلهُ على مستويين متماسكين الحب والطبيعة. ولعلّ ما جعلهُ يلجأ للطبيعة التي وصف محبوبته بألوانها، لخلوها وبرائتها من ألوان الفساد الشائعة في المدن، وهذا الأمر يُمثل مدى علاقة شاعرنا بجذورهِ التي نشأ عليها في قرية (طوخ) ( ) في مدينة القليوبية التي اشتهرت بطبيعتها الخلابة. أما في الجانب الآخر من القصيدة وتحديداً في المقطع الأخير منها يُحاور الشاعر تلك المرأة والمحبوبة والمعشوقة ليغازلها ويصفها بأروع الأوصاف حيث يقول بلسان العاشق السقيم( ): من المتقارب
إذا مسني الوجد
أنت الطبيب
وأنت الدواء
وراحة قلبي
إذا هدّهُ الوقتُ والاغتراب
لقد شكلت المرأة في شعر يحيى عبد العظيم باعثاً مهماً ونزعة نفسية جعلت منهُ ذلك الحالم باللقاء وبالنظرة وبالابتسامة، مصوراً عالماً في خيالهِ ملؤهُ السعادة والإنسانية والحب، فظاهرة المرأة في شعرنا العربي عميقة ومثلت جانباً ليس بالقليل في الشعر العربي قديماً وحديثاً باعتبارها قيمة إنسانية عُليا، والسند الذي يتكأ عليه الإنسان في حياته بل هي مصدر الالهام الأول للشاعر، وعاملٌ مهمٌ في بناء النص الشعري وبدون المرأة لا يستطيع الشاعر أَنْ يكتب نصاً عاطفياً فيه الوجدانية أو الحب أو الغزل أو الهيام؛ لأنها تثير وجدان الشاعر وعاطفتهُ خصوصاً في الوصف والتصوير فتأتي النصوص الشعرية فائقةً في المصداقية( )، فكانت المرأة في قصيدة الشاعر يحيى عبد العظيم (الدواء، والطبيب، والراحة للقلب) ثلاثية نابعة مِن الوجد بعد أَنْ هدهُ وأتعبهُ الوقت الذي قَصَدَ بهِ ذلك الزمن الصعب والأغتراب الذي يعيشهُ، وفي هذا يرى الدكتور يسري العزب (أن الحب يكون عند الشاعر الوجداني كاليد الرحيمة التي يرجوا الشاعر أَنْ تمتدَ إليه لتنتشلهُ مِن وحدة الحياة وآثامها، ففي الحب يجد الشاعر خلاصهُ مِن وحدتهِ، وأحساسهُ بالضياع، واليأس، أو العجز، أو الاغتراب) ( ). مَثلَّ الغزل عند شاعرنا جانباً للاهتمام وذلك للأسباب الآتية:
1- نشأة القرية وخصائصها وثوابتها التي تربى عليها يحيى عبد العظيم، فقد عده أغلالاً وبصرامة على تنشأة الفتاة وعدم احتكاكها مع الرجال، وأحياناً تصل مبادئ القرية الحاكم المتسلط على علاقة المرأة بالرجل خارج المفهوم الشرعي والديني، وهنا يتضح ما ذكرناهُ باختلاف شعراء الحداثة عن الأقدمين مِن الشعراء في عدم ذكر اسم المحبوبة بعينها في الشعر لأن ذلك يخدشُ الحياء ويكسر قدسية وكرامة المنشأ.
2- تنوع الغزل عنده على نوعين (حسي و عذري).
وكلما تتبعنا قصيدةً جاءت أُخرى أقرب للرومانسية ومنهجها حيث نرى ألفاظ الشاعر وصورهُ تُوحي اشاراتٍ ايحائيةً ذات دلالةٍ وجدانية وخيالية ففي قصيدة (تيه) قدّم لنا مجموعة مِن الصور الجميلة يقول في قصيدته( ): وهي من (الرمل)
ينحني الناسُ احتراماً
ينحني القلب هُياماً
واشتياقاً
وانهزاماً
للعيون الساحرات
والجفون النائمات
في ميادين السكات
وانتشاءات النوارس
في القلوب الناعسات