إلزامية الزحاف العَروضي في الشعر العربي

عبد العزيز الطالبي – المغرب
تقديم:
وضع الخليل بن أحمد الفراهيدي (توفي 170 هـ) علم العروض بعد عملية استقراء للشعر العربي، مكنته من حصر أنساقه الموسيقية الممكنة. وقد أقام هذا العلم على عدد من المصطلحات التي تؤطره، إضافة إلى وضع عدد من القواعد التي تضبطه.
وقد اتصف الخليل بالعبقرية من خلال علم العروض؛ حيث إنه وضعه كاملا من دون نقصان، فلم يترك للاحقين موضعا للزيادة، أو أمرا للنقد والنقاش، وقد أثبت ذلك مرور العصور، بعد الخليل، من دون أن يجرؤ أحد على المساس بهذا العلم، بل إن محاولات ذلك باءت بالفشل، ولم تقو على الخروج من جبة الخليل.
وعلم العروض مثله مثل العلوم الأخرى، تمعُّنه يثير عددا من القضايا التي تستأثر بالاهتمام، وتستحق أن يُسلط الضوء عليها؛ ومن ذلك ما يتعلق بقواعد إلحاق الزحاف العروضي بالتفاعيل، ومحدداته الذي سنثيره، في هذا الموضع، من خلال مسألة إلزامية الزحاف العروضي في الشعر العربي.
1- تعريف الزحاف العروضي:
تُعرف كتب العروض الزحاف بأنه تغيير يلحق ثواني الأسباب من التفاعيل العروضية، وتوظيفه ليس إلزاميا بالنسبة إلى الشاعر، بل إنه أمر اختياري، وبخاصة في حشو البيت الشعري المتمثل في تفاعيله كلها باستثناء الأخيرة من كل شطر (العروض والضرب). على خلاف العلة العروضية باعتبارها تغييرا يلحق الأسباب والأوتاد في العروض والضرب، مع إلزامية توظيفه إن ورد في بيت القصيدة الأول. فمثال الزحاف حذفُ الخامس الساكن من التفعيلة، ويسمى (القَبْض) في قول امرئ القيس في بيتين متتاليين من معلقته (الديوان، ص. 114- 115):
خَرَجْتُ بِهَا أَمْشِـــي تَجُـــرُّ وَرَاءَنَا عَلَى أَثَــرَيْنَا ذَيْـــلَ مِــــرْطٍ مُرَجَّـــلِ
فَلَمَّا أَجَزْنَا سَاحَــــةَ الحَــيِّ وَانْتَحَى بِنَا بَطْنُ خَـبْـــتٍ ذِي قِفَـــــافٍ عَقَنْقَلِ
تقطيعهما:
خَرَجْتُ/ بِهَاأَمْشِي/ تَجُـرْرُ/ وَرَاءَنَا عَلَى أَ/ ثَرَيْنَاذَيْ/ لَمِرْطِنْ/ مُرَجْجَلِي
فَعُـــولُ/ مَفَاعِيلُـنْ/ فَعُــولُ/ مَفَاعِلُنْ فَعُـولُ /مَفَاعِيلُنْ/ فَعُولُــنْ/ مَفَاعِلُــنْ
(القَبْض) (القَبْض) (القَبْض)
فَلَمْـمَا/ أَجَزْنَاسَا/ حَةَلْحَـيْ/ يِوَنْتَحَى بِنَـابَـطْ/ نُخَـبْـتِـنْذِي/ قِـفَافِـنْ/ عَقَنْقَلِي
فَعُولُنْ/ مَفَاعِيلُنْ/ فَعُولُـــنْ/ مَفَاعِلُـنْ فَعُولُنْ/ مَفَاعِـيـلُــنْ/ فَعُولُنْ/ مَفَاعِلُنْ
حيث يظهر توظيف الشاعر زحاف القبض في ثلاثة مواضع من حشو البيت الأول، وإهمال ذلك في البيت الثاني؛ مما يؤكد قاعدة الزحاف ومحدداته المذكورة سلفا. إذن فالزحاف، بحسب قواعد العروض، غير محكوم بعنصر الإلزامية.
2- إلزامية الزحاف العروضي في الشعر العربي:
الأصل في الزحاف ألا يُلتزم في حشو أبيات القصيدة كله كما سلف الذكر؛ أي أن للشاعر حق الاختيار في توظيفه من عدمه، وهذه قاعدة سارية على مجمل بحور الشعر العربي، ولاسيما المشهورة منها، أو الكثيرة الاستعمال. ولكن هناك استثناء بهذا الشأن، يقضي بإلزامية الزحاف العروضي في حشو القصيدة من خلال قاعدة عروضية تسمى (المراقبة)؛ والمقصود منها أن تتضمن التفعيلة تجاور سببين يقبل كل منهما زحافا معينا، ولا يجوز ظهور الزحافين معا فيها، أو غيابهما، وإنما لابد من حضور أحدهما وغياب الآخر؛ أي أنه لا بد من زحْف أحد السببين، وجعل الآخر سالما.
وترتبط قاعدة (المراقبة)، في الشعر العربي، ببحرين هما: المضارع، والمقتضب؛ فوزن الأول هو: (مَفَاعِيلُنْ فَاعِ لَاتُنْ) في كل شطر شعري، وتفعيلته الأولى يتجاور
فيها سببان خفيفان (عِي/ لُنْ)، وبشأنهما تجوز (المراقبة)، إما بحذف (الياء) من الأول، ويسمى (القبض)، أو حذف النون من الثاني، ويسمى (الكفّ)، مع ضرورة
تفادي إثباتهما معا. أما وزن الثاني فهو: (مَفْعُولَاتُ مُسْتَفْعِلُنْ) في كل شطر شعري، وقد تجاور في تفعيلته الأولى سببان خفيفان (مَفْ/ عُو)، يقبل أولهما حذف فائه، ويسمى (الخبن)، وثانيهما حذفَ واوه، ويسمى (الطّي)؛ ومنه فلابد من المراقبة بينهما في حشو القصيدة.
ومثال إلزامية الزحاف، عن طريق (المراقبة)، في بحر المضارع قول الشاعر (عبد العزيز عتيق، علم العروض والقافية، ص. 106):
أَلَا مَنْ يَبِيـــعُ نَوْمـاً لِمَنْ قَــطُّ لَا يَنَـــامُ
لِمَنْ ذَابَ فِي هَـوَاهُ وَمَنْ شَفَّهُ الْهُـيَـــامُ
لَئِنْ كَانَ لَيْسَ يَشْكُو لَقَدْ هَدَّهُ السَّـقَــامُ
تفاعيله:
مَفَاعِيلُ فَاعِ لَاتُنْ مَفَاعِيلُ فَاعِ لَاتُنْ
مَفَاعِيلُ فَاعِ لَاتُنْ مَفَاعِيلُ فَاعِ لَاتُنْ
مَفَاعِيلُ فَاعِ لَاتُنْ مَفَاعِيلُ فَاعِ لَاتُنْ
حيث زَحَفَ (مَفَاعِيلُنْ) التي تمثل الحشو بالكفّ في الأبيات جميعها.
ومثال ذلك في المقتضب قول أبي نواس (عبد العزيز عتيق، نفسه، ص. 112):
حَامِلُ الْهَـوَى تَعِبُ يَسْتَـخِـفُّـهُ الطَّرَبُ
إِنْ بَـكَى فَحَقَّ لَـهُ لَـيْــسَ مَـا بِهِ لَعِبُ
كُلَّمَا انْقَضَـى سَبَبُ مِنْكِ عَادَ لِي سَبَبُ
تفاعيله:
مَفْعُلَاتُ مُسْتَعِلُنْ مَفْعُلَاتُ مُسْتَعِلُنْ
مَفْعُلَاتُ مُسْتَعِلُنْ مَفْعُلَاتُ مُسْتَعِلُنْ
مَفْعُلَاتُ مُسْتَعِلُنْ مَفْعُلَاتُ مُسْتَعِلُنْ
حيث زَحَفَ (مَفْعُولَاتُ) التي تمثل الحشو بالطّي في الأبيات جميعها كذلك.
3- الأسباب الافتراضية لإلزامية الزحاف العروضي في الشعر العربي:
يعتبر المضارع والمقتضب من بحور الشعر القليلة الاستعمال من لدن الشعراء، وقد قال الخطيب التبريزي عن المضارع إنه لم يجئ فيه شعر معروف، وأن الخليل أجازه (الكافي في العروض والقوافي، ص. 117)، وأما المقتضب ففيه شعر لكنه قليل. يضاف إلى ذلك مجيئهما بالجَزْء لا التمام؛ فأصل المضارع في دائرته هو: (مَفَاعِيلُنْ فَاعِ لَاتُنْ مَفَاعِيلُنْ) في كل شطر شعري، وأصل المقتضب هو: (مَفْعُولَاتُ مُسْتَفْعِلُنْ مُسْتَفْعِلُنْ) كذلك، لكن حُذفت منهما التفعيلة الأخير فصارا مجزوأي الاستعمال. ولعل ما سلف واحد من الأسباب الافتراضية التي جعلت الزحاف لازما في حشو البحرين؛ لأن ذلك، لربما، يعتبر قاعدة قادرة على قياس مدى قدرة الشعراء على الالتزام بها، وبالتالي فهي اختبار لقدرتهم الشعرية؛ مما يجعلهم يتجهون إلى النظم على البحرين، وعدم إهمالهما. ثم إنه لما كان الجَزْء من دون التمام استثناء في البحرين، جُعلت إلزامية الزحاف، كذلك، استثناء فيهما؛ حتى يكون عنصر الاستثناء، هنا، متنوعا غير مقتصر على جانب واحد.
ولما وجب استعمال البحرين مجزوأين؛ فقد قلَّ عدد الأحرف المكونة للبيت الشعري فيهما؛ لأنهما يبقيان على تفعيلتين فقط، وبسبب هذه القلة؛ فقد يتجه الشاعر، وهو ينظم عليهما شعرا، إلى عدة الإتيان بالزحاف في الحشو أبدا؛ أملا في كسب عدد أكبر من الحروف في البيت، وحتى يتفادى العروضيون ذلك، أقروا قاعدة (المراقبة) التي تفرض على الشاعر الإتيان بالزحاف، وربما فُرض ذلك لأجل أن تكون حال حشو البحرين كحال نظيره في البحور الباقية.
خاتمة:
بناء على ما سبق، تبين أن الزحاف العروضي يمكن أن يثير عددا من القضايا المتعلقة بقواعده ومحدداته، يجدر بالمتخصص في العروض، والشاعر الإحاطة بها، كما هو الشأن بالنسبة إلى قضية (إلزامية الزحاف في حشو البيت الشعري). ومِثل هذه القضايا قد لا تفصح كتب العروض عن أسبابها؛ مما يحتم على الدارس الناقد كشفها، وإن بصورة افتراضية، مثلما هو الشأن بالنسبة إلى القضية السالفة الذكر، حيث ارتبطت أسبابها، افتراضيا، بما هو مبدئي (القواعد)، وتمييزي (التفرد والاستثناء).
ثم إن الدارس، في هذا السياق، واجب عليه إثارة قضايا أخرى، ومن ذلك طرح إشكالية اختصاص (إلزامية الزحاف في الحشو) ببحرين من بحور الشعر فقط (المضارع والمقتضب)، رغم قابلية البحور الأخرى لذلك.

مقالات ذات صلة

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: