إخفاق ونُجح
د. علي زين العابدين الحسيني| كاتب وأديب أزهري
قد يعنّ للشخص أثناء دراسته ما يشعره بالنقص في مادة دراسية، فيتجه لاستكمال هذا النقص بكلّ جهد يبذله، وقد يوفق حينئذٍ لأستاذ يأخذ بفهمه إلى الكمال، فتظهر موهبته المستكنة في تلك المادة الجديدة، وهذا ما حدث لجماعة من أهل العلم كان سبب إقبالهم على علمٍ ما وجدوه من نقص ذات يوم، وقد اتجهت بكل طاقتي إلى تعلم “علم الفرائض” بعد عدم تجاوزي لهذه المادة في إحدى الاختبارات الشهرية، وأفضل وصف لي في تلك الأيام ما ذكره أستاذي الأكبر محمد رجب البيومي عن الإخفاق عموماً، فهو: “يعصف بالإرادة عصفاً، ويهدم دون هوادة ما يتجمع من عزمٍ في كيان المخفق حتى ليعرقل سيره إذا سار، بل إنه يرى صاحبه ما لا يرى سواه في وجوه الناس ويسمعه ما لا يسمع، فكل نظرة إليه تؤول إلى تهكم واستهزاء من البعيد، وإلى عطف ورثاء من القريب، وكل همس بين أذنين حديث عن كبوته وتندر بعثرته”، ولهذا السبب شرعتُ في الدراسة على شيخنا العلامة المحقق “خاتمة الفرضيين” بمصر الحاج شحاتة سليم بقة الدقهليّ الشافعيّ، وأخذت عنه في كل علم من علومه -سوى الفلك- بسهم، واستفدت منه فوائد عديدة في طرق التعليم، وتلقيت عنه -وكان سنه حينذاك قد جاوز السادسة والتسعين من عمره- علم الفرائض مدة سنتين، وأجازني بتدريس هذا العلم والإفتاء فيه، وقد عزّ من أجازهم لشدته، وكان مولانا الإمام بارعاً في تدريس جميع العلوم الأزهرية، لا سيما مادة “الفرائض” التي مارس تـدريسها منذُ ما يـزيد عن نصفِ قرنٍ من الزمان، فقد ولد سنة 1327، ولكَ أن تتخيل هذا الموقف، يجلس الطالب الصغير بين يدي رجـلٍ عالـمٍ كبيرٍ جاوز السادسة والتسعين من عمره، وتعد حياته حياة حافلة بالعلم والتدريس، ومثالًا صالحاً للشبيبة تـقرأ سيرته للاقـتــداء بها. أتذكر ذلك اليوم الذي جلستُ متهيِّـبـًا أمامه فلم أنطق بكلمة، لكن سرعان ما عرف الشيخ علتي ومواطن ضعفي في هذه المادة من خلال طرحه أسئلة مختلفة، وكأنه طبيبٌ ماهـرٌ يعرف وجع مريضه قبل الكشف عليه، ولعل من أهم المميزات التعليمية التي انفرد بها أستاذنا مراعاة الطالب وإمكانياته وقوة عقله ومبلغ استعداده، وتهيئته تهيئة عامة قبل الدرس، وتمرين حواسه، والتوفيق في الربط بين المسائل المتشابهة والأبواب القريبة في التدريس، وتسهيل الصعوبات على المتعلم، وتوضيح الغوامض له، فليس التعليم بنظريات تستورد من خارج بيئة الطالب، وإنما هو النظر في واقع حياته، ودراسته دراسة وافية من جميع الوجوه: مواهبه، مهاراته، بيئته، نفسيته، وهذه الدراسة تفيدنا في تحديد الكتاب المناسب للطالب، وتفيد في تحديد سير طريقة الدرس، فالطالب في مقتبل عمره مجموعة من المواهب والنشاطات والمهارات، يحييها، أو ينميها، أو يقضي عليها المعلم في درسه، فإذا عرف المعلم كيفية استغلالها استطاع أن يحقق الهدف الأسمى من التعليم، ولأجل تحقيق ذلك كان ملماً بطرق التدريس المناسبة لواقع الطلاب، فهو بكل احترافية يجعل الدرس والحياة العلمية نموذجاً صغيراً للحياة الاجتماعية لدى طلابه، فلا يشعر الطالب أثناء درسه بغربة أو وحشة، فإن مثّل بمثال أتى بما يلامسه الطالب في واقع حياته، ولديه قدرة فائقة في إيقاظ وتنبيه الطالب بالبواعث على العمل والحياة الجادة في التعلم دون أن يفرض رأيه عليه، وكأنه يستل الطالب من واقعه إلى واقع أكثر نبوغاً دون أن يشعر بكثرة مسؤولية في المذاكرة أو الدراسة، لأن الطالب بعد حضور حلقته لا يحتاج كثيراً إلى بذل جهد في بيته، فتكاد المادة الدراسية تكون في ذهنه قبل خروجه من الدرس، ثم بعد التأهل كان من شروطه استخدام العلم، فلا تكمل أدواته لدى الطالب إن لم يستخدمه، وأقله أن يحاور ويناقش أصحابه في الطلب حتى لا يكون عاجزاً عن التصرف بالعلم الذي درسه، والحقيقة إن مهارات المدرس الناجح هي التي تنظم وتؤسس وتصنع الطالب المجتهد المقبل على العملية التعليمية بكلّ قوة، وفقدان المعلم لهذه المهارات يجعل الطالب يعاني من مشاكل دراسية مختلفة، وتزداد هذه المشاكل على مر الأيام، بحيث لا يستطيع التخلص منها بسهولة، وفي سبيل تقويم هذه النظرة في الدرس المعاصر يجب أن نعتمد الأساس العام الذي تقوم به العملية التعليمية، وهو أن نمو الطلاب ذهنياً وفكرياً واجتماعياً وسلوكياً إنّما ينبعث من قدرة المعلم، ومهاراته المتعددة، وارتباطه الوثيق بطلابه، وهذا المثلث من القدرة والمهارة والعلاقة هو الذي يجب أن ينشأ عليه المعلم في درسه، ليؤدي مهمته التعليمية والتربوية على أكمل وجه، ويكون للعملية التعليمية حينئذٍ طريقها الأمين وفوائدها المضمونة.