إبراهيم نصر الله (1) – أعماق بعيدة في قصائد صغيرة

بقلم: د. نهى مختار محمد
الشاعر يكتب قصائده الصغيرة التي تبدو بسيطة، لكنها ذات عمق بعيد، عمق يتصل بعمق القضية التي تسكن روحه، وتشكل ملامح وجوده، قضية ذات تاريخ ومرجعية وماض يأبى أن يتغير، لكنه سيتغير لا محالة بإذن الله، يكتب بعمق تاريخ غزة ونابلس وجنين والخليل والسموع والناصرة وخان يوسف وبئر سبع ورام الله وعكا وحيفا والقدس التي كان فيها قريته الصغيرة التي دمرها الاحتلال وجعلها مصنع أسلحته، إنه تاريخ فلسطين، ثم تاريخ الأردن التي عاش فيها.
ذلك لأن الشاعر أردني من أصل فلسطيني أما وأبا، تشهد دواوينه الزاخرة بالمطولات والمقطوعات والقصائد بعمق أصيل متميز وإبداع حقيقي كما تشهد رواياته التي استحقت الجوائز واستحقت الترجمة إلى لغات مختلفة.
أن تقرأ لإبراهيم نصر الله دواوين “أناشيد الصباح”، و”حجرة الناي”، و” لو أنني كنت مايسترو”، و”الحب الشرير”، وغيرها كثير، وتقرأ رواياته المختلفة، أن تجدد وتتطور وتغير رؤيتك للأشياء وتعمق نظرتك للحياة.
أقرأ معكم بعض قصائده القصيرة التي نشرها في مجلة نزوى في العدد التاسع يناير 1997، الذي أهداه لي قطب النقد ليكون أول لقاء لي بهذا الشاعر العظيم من خلال تلك المقطوعات الشعرية العذبة التي وضعها نصر الله تحت عنوان “والسروة تعدو”.
عنوان أخضر حي متحرك؛ فشجر السرو دائم الخضرة يزرع للتزيين كما يزرع ليكون سياجا يحمي المزروعات من الرياح، وقد جعلها تعدو أي تركض فترتبط الدلالة بالزمن تلقائيا، لأن التصور الذهني الجمعي المباشر للزمن بأنه يجري، وهي استعارة شائعة وجارية على الألسن حتى فُقد بعدها الاستعاري أثناء النطق باللغة العامية (الوقت بيجري)، أو “العمر طاير” ، وإبداع الشاعر يجعل القصائد العشرين ترتبط دلاليا بحيوية السروة، بطبيعتها النباتية، أو ترتبط بالعَدْو وفكرة المرور والجريان، أو ترتبط بالقيمتين معا، أو تكوّن منهما دلالة مجازية تجعل السروة هي العمر الأخضر، هي اللحظات السعيدة التي تمر سريعا في حين تظل خضراء في الذاكرة، وهذا كله يرتبط بقيمة الحذف الذي يجعلنا نتصور الدال المحذوف الذي يخلفه جملة العنوان: “والسروة تعدو”.
ما الذي يمكن أن يحل محل الفراغ الذي نتصوره قبل “والسروة تعدو”؟ ما الذي يحدث والسروة تعدو؟، هل هو تركيب يحمل تقابلا مثيرا بين التوقف والجريان، أو بين الثبات والحركة، ويكون الثبات للمرء والجريان للطرف الآخر، أو هو تركيب مترادف يحمل انسجاما وتناغما بين طرفين؟
في قصيدة نهايات يقول:
“نمور من حبر
طيور من حبر
وبشر من حبر
للغابة التي تحولت إلى ورق”
العالم بتفاصيله وفصائله حبر وورق، كل شيء مكتوب، وقد نقله الشاعر في أربع سطور، وهذه عبقرية التعبير عن النص الكوني الكبير، في تلاق مبدع مع قوله تعالى: “وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين” الأنعام، وكذا قوله تعالى: “وما من غائبة في السماء والأرض إلا في كتاب مبين” النمل.
فالكون كله قصة مكتوبة، لذا جعل كل مكوناته حبر وورق في نسق تكراري جميل.
يقول في “خسارات:
“ماشيا أو راكضا
لا فرق
بالخطى البطيئة
المحكمة تماما
تدركني دائما دقات الساعة”
وهذه القصيدة هي الأكثر اقترابا من فكرة العنوان: “السروة تعدو” وكأنها تؤول إلى “ويمضي العمر”.
أعجبتني ثلاثية بعنوان “حداد”، كيف بكلمات قليلة هكذا أثار شجن البشرية القديم في قوله:
“وما الذي رآه الغراب
كي يرتدي السواد
طوال هذه القرون”
ما الذي رآه الغراب؟ سؤال عظيم؟ هل شهد الجريمة الأولى على الأرض؟ ورأى كيف تحطمت الإنسانية لأول مرة على يد قاتل حاقد استباح روح أقرب الناس إليه فكأنما قتل الناس جميعا، هل ارتدى السواد منذ ذلك الحين؟ إنه حسن تعليل بليغ لسواد الغراب، وحسن إيجاز، وحسن تناص، إنها محاسن كثيرة في مقطع صغير يثير عديدا من التساؤلات ويفتح مجالات التأمل بحيث لا يمكن أن يستوعبها مقال واحد، فهذا الشاعر الفريد لا تكفيه زيارة واحدة، لأن أعماق شعره كأعماق أصله تحمل الكثير من الأسرار.