أ.د/ محمد العتربي يكتب: المقاصد والحياة ( /109/2 )
المقاصد والحياة ( /109/2 )
أ.د/ محمد العتربي .. جامعة السلطان عبد الحليم الإسلامية ( UniSHAMS)
نواصل حديثنا عن علاقة المقاصد بالحياة ،وننتقل إلى علاقة المقاصد بنوع جديد من المعاملات وهي الأحوال الشخصية حسب الاصطلاح الحقوقي المعاصر. لم يعرف الأكاديميون العرب مصطلح الأحوال الشخصية إلا بعد أن نقله السنهوري باشا عن بعض الحقوقيين الإيطاليين ترجمة عن اهتماماتهم بالحياة الزوجية وعلاقة الرجل بالمرأة والمرأة بالرجل وما يتولد عن تلك العلاقة الزوجية من علاقات أسرية يتبعها علاقات قانونية كالنسب والقرابة والمصاهرة والإرث وغير ذلك من حقوق وواجبات .
مصطلح الأحوال الشخصية في الأوساط الأكاديمية الإسلامية يتناول ؛الزواج الطلاق الميراث وربما الوقف وعندما نتكلم عن مقاصد الأحوال الشخصية نريد تشغيل المقاصد في إطار الزواج والطلاق والميراث ، ونبدأ بالزواج فما مقاصد الزواج وما أثر المقاصد في استقرار الحياة الزوجية ومن ثم استقرار المجتمع ؛يمكننا إجمال مقاصد الشريعة في باب الزواج فيما يلي :
أولا :المقاصد العامة للزواج :
-حفظ النسل والذرية : قال صلى الله عليه وسلم: ( تزوَّجوا الودود الوَلُودَ؛ فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة)، وفي هذا الحديث ترغيب من النبي صلى الله عليه وسلم لأمته بالزواج، وقد بيَّن مقصدًا عظيمًا من مقاصده؛ فالودود أي: شديدة المحبة لزوجها، والولود أي: كثيرة الولادة، ويُعرَف ذلك بالنظر إلى نسائها القريبة منها كأمها وأختها، (فإني مكاثر بكم الأمم)؛ أي: مفاخر بكثرتكم، وهذه نعمة عظيمة، النبي صلى الله عليه وسلم يفخر ويباهي بنا الأمم وأنبياءها، فالكثرة المؤمنة محمودة لِما فيها من النفع الذي يعود على الأمة الإسلامية في الدنيا والآخرة؛ من الشهادة على الناس، والاستخلاف في الأرض، وتقويتها وتمكينها حتى تكون مرهوبة وعزيزة، فاعلة الأثر والتأثير.
-بناء المجتمع : الزواج هو الطريق الوحيد لبناء المجتمع، وتكوين الروابط الاجتماعية وتحقيق مجتمع إنساني كريم، يقوم على الأسرة وحفظ الأنساب، فينشأ عنه مجتمع صالح يسير بالأمة نحو التقدم والتطور، وعمارة الكون، لبناء هذا المجتمع المنظم، واستمرار الحياة فيه لا بد من وسائل التعارف والترابط من خلال قرابات النسب والمصاهرة؛ قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا﴾ الفرقان: 54، بالمصاهرة تتسع دائرة الترابط الاجتماعي، ينظم الأنسان أسرة إلى أسرته، وعشيرة إلى عشيرته؛ فينشأ عن ذلك الألفة والمودة بين أفراد المجتمع، مما يكون له أثر بالغ في التعاون والترابط وتقوية المجتمع.
-تحقيق آية الله في خلقه؛ قال تعالى: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ الروم: 21، فندرك من خلال الزواج هذه العظمة الإلهية، حيث نرى رجلًا وامرأةً أحدهما لا يعرف الآخر، فإذا خطب الرجل المرأة فتزوَّجا؛ تقوى العلاقة بينهما، ويسكن أحدهما للآخر، وتكون بينهما المودة والرحمة؛ ولذلك – إخواني -: الحياة الزوجية إذا خلت من المودة والرحمة كالجسد الميت إذا لم يدفن، فاح عفنُه ونتنُه، فكم من زوجين يعيشان كالأموات؛ لانعدام روح المحبة والمودة بينهما، وأي سكينة ستحصل لمن تتخذ أخدانًا وأصحابًا بدون زواج شرعي، ولمن يتخذ خليلات بدون زواج شرعي؟ وأي نجاح يُرجى للذين يتعارفون قبل الزواج -زعموا- فيتعاملون تعامل الأزواج وليس الغرباء، فحادوا عن منهج الله ومنهج رسوله صلى الله عليه وسلم.
ثانيا : المقاصد الخاصة للزواج :
-الإحصان والعفاف؛ الغريزة لدى الرجل والمرأة شيء فطري، لا بد من إيجاد مخرج لصرفها؛ ولذلك حرَّم الدين كل الطرق المُحرَّمة لصرفها، قال تعالى: “﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُو ﴾ المؤمنون: 5 – 7، فحرَّم الزنا، قال تعالى: ﴿ وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا ﴾ الإسراء: 32، وحرَّم اللواط والسحاق (الشذوذ الجنسي)، فقال تعالى على لسان لوط عليه السلام: ﴿ وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ * إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ ﴾ الأعراف: 80، 81، وقال صلى الله عليه وسلم: “من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط، فاقتلوا الفاعل والمفعول به” رواه الترمذي برقم: 1450،، وحرم نكاح البهيمة، فقال صلى الله عليه وسلم: “من وجدتموه وقع على بهيمة فاقتلوه، واقتلوا البهيمة ” رواه الترمذي برقم: 1455،، وحرم النظرة المُحرَّمة، فقال تعالى:﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ ﴾ النور: 30، 31.
-تحقيق السكن بين الزوجين : قال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ الروم: 21، لفتنا الله تعالى في هذه الآية إلى مقصد عظيم من مقاصد الزواج؛ ألا وهو السكن النفسي، السكينة هو انجذاب فطري، أودعه الله تعالى في الإنسان يشعر بدونها بفراغ في كيانه النفسي، ولا يملأ ذلك الفراغ إلا علاقة بين زوجين مبنية على المودة والرحمة؛ ليجد كل منهما في صاحبه السكينة الذي أرادها وهدف لها الإسلام، فتضيء له جوانب حياته، فتكتمل شخصية الرجل الذي تناسب طبعه بتحمله المسؤولية زوجًا وأبًا، ويتفرغ الرجل لإتقان أعماله خارج البيت مطمئنًّا إلى أن في بيته من يُدبِّر أمره، ويحفظ ماله، ويرعى أولاده، وتكتمل شخصية المرأة التي تناسب طبعها بتحمل مسؤوليتها زوجةً وأمًّا؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( كلُّكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته، فالرجل راعٍ في أهله، وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها، وهي مسؤولة عن رعيتها) ، ويبدأ الاستقرار وراحة البال، وطمأنينة القلب، ويأنس ويهنأ كل منهما بالآخر، فيجدون في بيت الزوجية جنة الحياة، وقد قيل: “من أكرمه الله تعالى بزوجة صالحة طيبة، فقد عجَّل الله إليه بشيء من نعيم الجنة المقيم”. وللحديث بقية في الحلقة القادمة مع مقاصد الطلاق وفرق النكاح.والله الموفق،،