أومبرتو إيكو ووسائل التواصل والإعلام
دكتور إسلام فوزي محمد
إذا تحدثنا في العالم العربي عن أومبرتكو إيكو Umberto Eco (1932-2016) فكثير من المعنيين بعالم الفكر والثقافة والأدب واللغة وعلومها قد يعرفه بشكل أو بآخر وبنسب متفاوتة، سواء كانوا من العارفين باللغة الإيطالية أو الإنجليزية أو حتى بالعربية فقط. لكن دعونا نستعيد سريعًا بعض المعلومات العامة المهمة عن هذه الشخصية المؤثرة.
هو Umberto Eco أومبرتو إيكو – كما أحب أن أكتبه أنا شخصيًا مثل آخرين وفقًا لقواعد النطق الإيطالي – أو اسمه أٌمبرتو (بضم الألف دون إضافة واو المد) ولقبه إكو (بكسر الهمزة فقط دون وضع ياء المد) ويرجع الاختلاف في كتابته إلى اختلاف قواعد المد والحروف المتحركة بين اللغات وخاصة الإيطالية والعربية.
ولد بمدينة الإسكندرية الإيطالية Alessandria في الخامس من يناير عام 1932 وتوفي في مدينة ميلانو في التاسع عشر من فبراير عام 2016. وهو شخصية متعددة الأدوار والتصنيفات؛ فهو أديب، كاتب وروائي، وهو فيلسوف ومؤرخ، وهو مترجم وعالم وأكاديمي متخصص في الدراسات اللغوية والأدبية، خاصة علوم العلامات والدلالة والتأويل. تخرج في الفلسفة بجامعة تورينو عام 1954. وعمل أستاذًا بأكبر الجامعات الإيطالية، جامعة بولونيا، كما كان رائدًا لعدة برامج دراسية أدت إلى تطور علوم اللغة بالجامعة الإيطالية وبأوروبا كلها ومنها انتقلت نظرياته إلى مختلف بلاد العالم. وقد أسس قسم التواصل بجامعة سان مارينو عام 1988. ومنذ عام 2008 إلى وفاته، أصبح أستاذًا متفرغًا بجامعة بولونيا ورئيسًا للمدرسة العليا للدراسات الإنسانية بالجامعة نفسها. وبدءًا من 12 نوفمبر 2010 أصبح أومبرتو إيكو عضوًا بأكاديمية لينشيي Accademia dei Lincei، قسم العلوم الأخلاقية والتاريخية والفلسفية.
له العديد من المؤلفات في هذه العلوم والمجالات وله إنتاج أدبي أيضًا، لعل أشهره روايةIl nome della rosa “اسم الوردة” التي نشرت عام 1980 وحصدت أهم الجوائز الأدبية في إيطاليا جائزة إستريجا Strega عام 1981، وترجمت إلى أكثر من 40 لغة منها اللغة العربية. وحققت هكذا نجاحًا كبيرًا استمر لعقود. ولعل في مقالة أخرى نسلط عليها الضوء بشكل أفضل لأن الحديث عنها وعن تفاصيلها يطول، والحديث عن مسيرة إيكو نفسه يحتاج إلى صفحات ودراسات كثيرة. من أهم دراساته Opera aperta. Forma, indeterminazione nelle poetiche contemporanee أي “العمل المفتوح. الشكل وعدم التحديد في الشعريات المعاصرة”؛Come si fa una tesi di laurea أي “كيف تكتب بحث تخرج”؛ L’arte come mestiere أي “الفن بوصفه مهنة”، Le forme del contenuto أي “أشكال المضمون”، Semiotica e filosofica del linguaggio أي “سميوطيقا اللغة وفلسفتها”، Dire quasi la stessa cosa أي “أن تقول الشيء نفسه تقريبًا”، La ricerca della lingua perfetta nella cultura europea أي “البحث عن اللغة الكاملة في الثقافة الأوروبية”، والعشرات غيرها من الكتب والدراسات المتخصصة، وقد ترجم منها الكثير إلى العربية سواء عن الإيطالية مباشرة أو عن لغة وسيطة مثل الإنجليزية. بينما نجد من إنتاجه الأدبي الذي ترجم أغلبه أيضًا إلى العربية: Il nome della rosa “اسم الوردة، Il pendolo di Foucault “بندول فوكو”، L’isola del giorno prima “جزيرة اليوم السابق”، Baudolino “باودولينو”، La misteriosa fiamma della regina Loana “الشعلة الخفية للملكة لوانا”، Il cimitero di Praga “مقبرة براغ”، Numero zero “الرقم صفر”.
كان إيكو متفاعلًا نشيطًا حتى أيامه الأخيرة إذ كان يتابع الحركة الثقافية بشكل عام وتطرق إلى مستويات الكتابة واللغة والصحافة والإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي أيضًا. وفي عامه الأخير قبل وفاته بأشهر تقريبًا في عام 2015 بجامعة تورينو التي تخرج بها كان في حفل تكريم له ومنحه شهادة تخرج شرفية بتخصصه مرة ثانية، وقد علق مازحًا على ذلك بأنه كان يفضل أن تكون شهادة تخرجه الثانية في الفيزياء النووية أو في الرياضيات. وفي تلك المناسبة سئل عن رأيه في تويتر وما شابه من وسائل التواصل الاجتماعي وعما تتيحه مثل تلك المنصات بشكل موجز سريع لكتل هائلة من البشر يمكنها أن تعبر عن ذاتها في آن واحد، فكل يمكنه أن يدلي بدلوه بدءًا من الصحفيين وصولًا إلى عامة الناس، ليصبح الجميع من أصحاب الرأي العام. فكان رده كالتالي: “إن ظاهرة تويتر تسمح في الأساس لعينة من الناس أن تتواصل مع الآخرين على الرغم من أن لها طبيعة إخصائية نوعًا ما، وأنها تستبعد الناس من أشكال التواصل المباشر وجهًا لوجه، فهي ظاهرة من ناحية أخرى إيجابية. فلنفكر في أشياء تحدث في الصين أو مع أردوغان في تركيا، فكانت هناك حركة من الآراء المتنوعة. ومن جانب آخر، تسمح هذه الظاهرة أيضًا بأن يتمتع بحق الكلمة فيالق من الحمقى، الذين كانوا يتحدثون من قبل فقط في المقاهي، بعد احتساء كوبين أو ثلاثة من النبيذ الأحمر، وبالتالي لم يكونوا يتسببون في الأذى للمجتمع. إنهم ناس كان يسكتهم رفقاؤهم، أما الآن فقد بات له الحق في الكلمة كما لو كانت كلمة الفوز بجائزة نوبل”.
هكذا جاء الجزء الأهم في رده على السؤال الخاص بظاهرة تويتر ووسائل التواصل الاجتماعي بشكل عام، بينما أخذت الصحف الإيطالية الجملة الأكثر إثارة للجدل لتضعها عنوانًا لمقالات تجعل من إيكو مهاجمًا لهذه الظاهرة على الرغم من قوله في البداية بأنها ظاهرة بها شيء إيجابي. فكان إيكو يرى أن شأن الإدلاء بالرأي العام والحق في الكلمة يجب أن يكون بشكل ممنهج ومدروس، فالكلمات لها وقعها ولها تأثيرها وإلا فقدت قيمتها، ويقول إيكو: “إن مأساة الإنترنت أنه رفع من شأن أحمق القرية ليصبح حامل الحقيقة” وبذلك دعا إيكو المسؤولين أن يقوموا بفلترة المعلومات الواردة عن طريق الإنترنت عبر فريق من المتخصصين، لأنه بات من الصعب اليوم تحديد إذا كان موقع ما مصدر ثقة لأخذ المعلومات منه أو لا. وبالتالي أوصى إيكو الصحف والقائمين عليها وعلى مواقع الإنترنت بالتالي: “على الصحف أن تخصص على الأقل صفحتين للتحليل النقدي لمواقع الإنترنت لاستخراج الموضوعات. فمعرفة النقل قيمة، لكنه يجب أن مقارنة المعلومات كي نفهم إذا ما كانت موثوق بها أو لا”.
وقد انتشر الأمر بين الصحف العالمية والعربية وقد علق المترجم الراحل صالح علماني على الأمر ونقل إلى العربية آنذاك ذلك الخبر. واستشهد به الكاتب والمفكر العربي أمين الزاوي في مقالته المعنونة “فيسبوك: مجال الحمقى أم لعبة الكبار بالحمقى؟” المنشورة عام 2020. فقد باتت قضية حرية التعبير وحرية الرأي مفتوحة بشكل كبير وصارت الكلمة بشكل عام حقًا للجميع في مثل وسائل التواصل الاجتماعي، لكن نلاحظ مستويات لغوية وفكرية عديدة في هذه المنصات وكتابة بلغات متداخلة، ففي العربية نجد لغات متباينة ومستويات لغوية تبدأ من فصيح اللغة إلى أدنى مستويات العامية واللغات الشعبية. فهل كما يقول إيكو على المعنيين أن يقوموا بدور ما من أجل ضبط هذه العملية، أو أن من حرية الرأي أن يكتب كلٌ ما يشاء وكما يشاء؟ فإذا كان الأمر كذلك، فلماذا امتعض البعض من رأي العالم الكبير إيكو ومن كلماته وهو من أولئك الذين يملكون حق الكلمة والتعبير إن لم يكن أحق من كثير نظرًا لباعه الطويل في علم الكلام وعلوم اللغة!
وبهذه المناسبة نذكر أن أومبرتو إيكو كان قد بدأ يكتب أجندة فكرية أدبية لغوية منذ نهاية القرن الماضي واستمر فيه حتى أواخر أيامه وأطلق عليه اسم Bustina di Minerva أي ما يمكن أن نترجمه إلى “قرطاس منيرڤا” ويأتي الاسم إلى علبة مشط الكبريت إذ كان يدون عليها بعض الكتابات الموجزة أو الملاحظات ومنيرڤا هو اسم علب الكبريت تلك، وكان إيكو ينشرها على حلقات بصحيفة Espresso ثم جمعها بعد ذلك في كتاب نشره مع دار نشر بومپياني Bompiani، ومن أشهر ما كتبه في إحدى الحلقات “القواعد الأربعون للكتابة بشكل صحيح باللغة الإيطالية”.
ولمَن يقرأ هذه الحلقة يجد فيها من أسلوب إيكو الساخر متعة غريبة ويجد كم يصعب ترجمة مثل إبداعاته ففي النقطة الأولى يستخدم كلمات بها حروف صوتية تحدث سجعًا في القراءة وهو ينهي في الأساس عن السجع أو يأمر بتجنبه، بينما في العبارة الثانية يقول بعدم ضرورة إهمال صيغة الشك في اللغة الإيطالية congiuntivo بل يجب استخدامها عند الضرورة وهو لم يستخدمها في الجملة التي يفترض أن يستخدمها فيها وفقًا لقواعد اللغة الإيطالية المعيارية، ينصح بالابتعاد عن العبارات الاصطلاحية فيستخدمها في وصفها، يحذر من الوقوع في استخدام نقاط الوقف ويستخدمها، ثم ينصح بالتقليل من استخدام علامات التنصيص لأنها ليست “رقيقة” فيستخدمها مع الصفة، ويتبع هذه الطريقة في الأربعين قاعدة، وكأنه يقول يطرح قضية مثيرة للاهتمام وهي أزمة اللغة في تطورها بين القواعد الجامدة للغات المعيارية كما يضعها النحاة وعلماء اللغة وما قد ينتج عن نص إبداعي أدبي، ولعلنا نجد في إيكو هذه التركيبة المعقدة المركبة فهو أديب وفيلسوف ومتخصص في علوم اللغة، مما يخلق داخله صراع فكري مستمر حول قضايا اللغة وتحولاتها. ويستدعي الأمر الحديث عن إيكو مرات ومرات، إذ يجذبنا إيكو في كل مرة نتحدث عنه أو نقرأ له إلى موضوعات كثيرة.