ألعاب شعرية في جدار الرقمية – استعارة النافذة بين رواية أفونسو كروش “هيا نشتر شاعرا” وديوان جيهان عمر “حين أردت أن أنقذ العالم”
بقلم الأستاذ الدكتور سيد محمد السيد
يلتقي المبدعون
مهما تغيّرت الأبجديات
وتنوّعت الفنون
الظاهرة الإبداعية في الحياة العصرية المادية الرقمية هي السؤال الذي يطرحه القاص البرتغالي أفونسو كروش في روايته القصيرة “هيا نشتر شاعرا” وهي نص سردي يتخذ من الفانتازيا عالما مشحونا بكوميديا سوداء، وكأن الرواية نكتة ساخرة يضحك المتلقي من منطقها الغرائبي ثم تدمع عيناه بعد أن يوقن أن الغرائبية هي تلك الحياة المعدنية الباردة التي اعتاد أن تدق عقارب ساعتها رأسه المغلق كل ثانية.
والسؤال نفسه تطرحه الشاعرة المصرية جيهان عمر في ديوانها “حين أردت أن أنقذ العالم” هذا العنوان الذي يحرك ذهن المتلقي تجاه استعادة جملة محذوفة، يمكن أن يفترضها في صيغة استفهام “ماذا فعلت؟” فتكون القصائد هي الإجابة، أو يلتقط القارئ الحذف بالبديهة فيقول مستكملا العنوان: “حين أردت أن أنقذ العالم كتبت هذا الديوان.” فيكون الشعر فعلا إنجازيا للإرادة، يمد حبال النجاة لحضارتنا كي تتمسك بذاك المتخيّل المطلّ على رحابة تفتقدها حياة لا تعي سوى تطبيقات المادية الرقمية التي وجّهت السلوك البشري إلى منزلق بلا آفاق حجب عنه الأفق الروحي، وهذا ما عبّرت عنه صورة الغلاف بطريقة رمزية، حين جعلت الجمال فتاة صغيرة تشد رجلا في حالة تنويم مغناطيسي، كاد يسقط من سطح منزل صغير أسفل المجرة الكونية.
من رواية كروش التي سخرت من عالم يسير وهو يحسب عدد خطواته في عداد التجارة دون أن يحسب مصير التجربة البشرية، وديوان جيهان عمر التي طرحت الشعر بوصفه عملية تحرير للمفاهيم من سيطرة دورة الاقتصاد النفعية اللحظية التي تفتقد الذاكرة، تتجلّى ظاهرة تعبيرية دالة على استراتيجية الفن في تغيير منظور الرؤية العصرية من الانغلاق المادي إلى الانفتاح الذهني، هذه الظاهرة هي استعارة النافذة، وهي ما سنلقي الضوء عليها من خلال نماذج تحليلية موجزة، وإن كان مفهوم النافذة يشير – بشكل واضح – إلى مجموعة من المصاحبات الدلالية مثل الرؤية والمنظور والتطلّع إلى العالم بما فيه من رحابة تحتوي الإنسان والطبيعة معا في امتداد يأخذ المحدود إلى المطلق.
تحقيقا لرغبة الابنة التي مرت توا من مرح الطفولة إلى أعتاب المراهقة وهي في عامها الثالث عشر اشترى الأب البرجوازي شاعرا تشغل به الفتاة عالمها المعلّق في حصار الأرقام بين سذاجة الطفولة وتطلّعات الشباب، اقتنصت موهبة كروش وخبرته الجمالية هذه الفكرة ربما من البرامج الرياضية التي تتحدث ليلا على الهواء وتعاد نهارا مجمّعة ومقطّعة على البوابات الرقمية عن شراء اللاعبين وعقود المديرين الفنيين وصفقات وكلاء الأعمال وانتقال مقدمي البرامج بين القنوات من خلال شركات الرعاية، لقد تحوّلت الرياضة إلى تجارة، وتوارى المبدعون في الظل تعرضهم محال مخصصة لتسلية الأطفال والمراهقين، وحينما يأتي الشاعر البائس إلى موقعه في المنزل ويشغل الرقعة المحددة له، ينقل الأسرة من حال إلى حال، فيفتح نافذة في حياتها المحاصرة بين جدران الرقمية، نافذة استعارية من خيال لا يعرف القيود، ويجيد الألعاب السحرية المدهشة التي تكشف لمدعي المعرفة عن عالم آخر يتجاوز حدودهم المصطنعة بالعدادات المماثلة لحركة يدي شارلي شابلن وهو خارج من المصنع غير قادر على الفصل بين تعامله مع الماكينات وتفاعله مع البشر.
يرسم الشاعر نافذة على الجدار، النافذة، في المعجم المادي لأسرة سيطرت عليها الثقافة الرقمية، هي مساحة في الحائط لها طولها وعرضها، ويحتاج فتحها إلى أذن البلدية، لكنها عند الشاعر انطلاق للحواس والذهن والروح خارج حصار الجدران، وهي لا تقتصر على التعريف المعجمي إنما تذهب أبعد منه لأنها موجهة إلى كون فسيح يحتضن كثيرا من الكائنات التي لا يحدها حصار: “النافذة هي النافذة، ولكن النافذة عصفور يطير هي حقيقة أكثر عمقا، أبعد من الزجاج، شيء أبعد من تعريف المعجم.” أفونسو كروش: هيا نشتر شاعرا ترجمة عبد الجليل العربي – مسكيلياني للنشر – تونس – ط 1 – 2017م – ص 63 من منظور الشاعر لا يكفي التعريف المعجمي لرؤية العالم والتفاعل معه لأن مقصدية الإنسان تحفّز ملكاته نحو الأشياء الصماء فتكتسب تلك الأشياء قيمتها من توجّه الذات إليها، وهذا عكس ما تفرضه الثقافة المادية الرقمية من سيطرة الأشياء على الحواس والأذهان ونفي كل ما يتعلّق باحتياجات البشر الروحية والوجدانية خارج المعجم التداولي الحضاري المادي الحالي.
هذه ليست مبالغة مفرطة من أفونسو كروش بل نجدها واضحة في حياتنا داخل السياق الجامعي المكرّس لحرية البحث والفكر والنقد، فالطالب منذ اليوم الأول يطلق سؤاله المؤرق: “هل هذا سيأتي في الامتحان؟” ويضيف إلى ذلك: “ما المادة التي سأذاكرها بالتحديد الكمي؟ كيف ستكون الأسئلة؟ ما الإجابة النموذجية؟” مع أن فلسفة التعلّم في الجامعة تفترض أن الطالب يشارك في إعداد مادته، وأن يواجه أسئلة تطرح أمامه مشكلات للتفكير، وأن موقفه النقدي محوري في معالجته للقضايا، هنا يكشف كروش ظواهر مهمة مترابطة في سياقاتنا الثقافية المعاصرة حالت بين الذات والانفتاح على معطيات العالم من خلال منظور تأملي رحب يبحث عن ماهية الوجود في الكون المتسق الشاسع أمام الحواس والذهن والحدس في سياق تتضافر فيه قوانين المادة حين تتجلّى في نص مفعم بالروح، ولو كانت المادة هي الهم الأول والأخير لكانت نظرية الترجمة المثالية هي نقل كلمة بكلمة دون زيادة أو نقصان.
وقد طرح عبّاس محمود العقّاد العلاقة بين الإبداع والحياة في صورة تمثيلية كاشفة واضحة، عناصرها موجودة في الطبيعة، فرأى أن من ينكر علاقة الفنون بالتطوّر البشري “مثله في ذلك كمثل من تقول له إن المد والجزر من فعل القمر، فيعجب من ذلك ويقول لك: أين السماء من الماء؟” – العقاد: مطالعات في الكتب والحياة – دار المعارف – القاهرة – ط 4 – 1987م – ص 293 وأصل مقال العقاد مقدمة لديوان شكري عام 1913م وهذه نظرة عبقرية من مفكر أرقته هموم عصرنا فاستشرفها من عشرات السنين، من هذا المنظور يمكن معالجة موضوع الشعر عند جيهان عمر بوصفه نافذة تنتشل الذات المعاصرة من الحركة العبثية في الدائرة السلوكية الرقمية فتصل العقل التأملي بعالم ثري ناتج من إقامة علاقات جديدة بين محتويات الفضاء الكوني حين تتحوّل إلى أبجدية حافلة بمفردات التفكير والتعبير، تلك المفردات التي تتشكل منها متواليات بلا حصر من معطيات الاحتياج البشري، وعن طريق استعارة النافذة يطل الإدراك على صورة محفّزة للتساؤل قبل الاختيار، فتقول جيهان عمر:
“قلت لك
إنني أحب فتح النوافذ
قبل أن أحتار أيهما القمر
أيهما الشمس
ولماذا يظهران معا في نفس الوقت”
هذه الفقرة من قصيدة “أتلمس برودتها” من ديوان حين أردت أن أنقذ العالم – ط1 – القاهرة – دار المرايا للإنتاج الثقافي – 2021م – ص96 هنا تتجلى استعارة النافذة عند جيهان عمر لتأخذ المتلقي من حصار الاعتياد إلى دهشة الارتياد المغامر الباحث عن صورة جديدة مانحة لمعرفة مغايرة، هذه المعرفة لا تخالف الحقائق العلمية المادية وقوانينها المكتشفة التي تزعم حضارتنا أنها تنتج منها التطبيقات المادية المفيدة للبشر، لكن الإجابة التي يستخلصها الإدراك من الاستعارة ستضع الخيال موضع الاكتشاف المعرفي العلمي الدقيق، إننا نرى العالم في إطار زمن مرجعي محدد بينما صفحة العالم الكونية أكثر اتساعا، فمنابع الإضاءة الكونية تخاطب حواسنا من انعكاس الشمس على صفحة القمر، هكذا نرى الصورة في مقاربة للحقيقة من ناحية، وفي الوقت نفسه تعايش مخيّلتنا ظهور القمر وإشرق الشمس عبر الأقاليم، فنتجاوز الحس إلى الخبرة الشعورية العميقة التي تجعلنا نشترك مع البشرية عبر المكان والزمان من ناحية ثانية، ونلتمس الإضاءة في مصادرها الكونية ومنابعها داخل النفوس وفي تشرّب مفردات العالم لها أيضا من ناحية ثالثة، إن القمر والشمس ليسا عنصري إضاءة طبيعية فقط إنما هما كلمتان في اللغة التي نفكر بها، واللغة أبجدية إضاءة تفتح أمامنا سبيل التأمل لتجاوز الحيرة إلى الاختيار الذي يستند إلى بيّنة، وكأن التعبير المصري الجميل “عليك نور” نافذة تطل على الرأي السديد الصادر من عمليّات فكرية واضحة تهدف إلى الوصول إلى الحقيقة.
ونرى استعارة النافذة في تصوير تمثيلي يمتد بالصياغة الشعرية لتكتشف روعة الانطلاق من عتمات المادية الضيقة إلى المعاني البعيدة المنيرة في فضاء المخيّلة التي تجوب طريق الإبداع المترامي بطول التجربة البشرية فتقول الشاعرة جيهان عمر:
“عندما تضاء نافذته
تقف فجأة
موجهة حديثها إلى النافذة
بكلمات ترتفع في الهواء
مثل موجة
تحدق طويلا
قبل أن تفرد شالها على الأرض
لتضع فيه النافذة
كملجأ مضيء
وتمضي في شوارع
لن تنتهي” – ص43
تظهر النافذة في تكوين عكسي، إن الصورة تقدّم الذات ماضية في طريق غريب يكاد يخلو من الإضاءة، الذات في الخارج تبحث عن منارة هي النافذة، والضمير الذي يحيل إلى مجهول قد يكون شخصية مرجعية في حياة الذات، وقد يكون الإلهام الدافع للإبداع، هنا ينطلق إرسال الذات، يحمل الأثير الحضاري كلمتها في بحر التواصل المحيط بالحضارات واللغات والخطابات، تحتفظ الذات بالنافذة المنيرة في رداء يحيطها، تتشبع بتلك الإضاءة الثرية النابعة من استعارة النافذة التي تصدر الضوء أو تعكسه أو تتشرّبه، وتستمر المسيرة الإبداعية للذات في طرقات البشرية الواصلة بين الأجيال، هنا نرى النصين يلتقيان في إدراك استعارة النافذة التي تنتج مفهوم العبور من صلابة القيود المادية إلى انسيابية النور التي تمس طاقة الابتكار كي تتوهج وهي تبدع حضارة تسير بحرية خارج جدران المادية.