أكلوا السَّمَكَةَ حتى رَأسِها!
بقلم د. مصطفى شعبان
أكلوا السَّمَكَةَ حتى رَأسِها!
بقلم د. مصطفى شعبان
ذات غَداءِ قَريبٍ سَنَحَ لي ولزميلٍ حبيبٍ لي في أرض الصِّينِ العَتيقَةِ أنْ نتوجهَ تلقاءَ مطعمٍ نقتاتُ طَعامنا فيهِ، فَلَما بَلَغْناهُ ذهبنا نُعَبِّئُ الأطباقَ بما راقَ للذَّوقِ مِنْ صُنوفِ الأكلاتِ، وجاءَ دَوْرُ السَّمَكِ فطَفِقْنا نصيدُ مِنْهُ ما استطعنا فإذا كُلُّ ما في إِناءِ السَّمكِ رُؤوسٌ فقط!!!
قُلْنا لا بأسَ .. الرَّأْسُ كما يقولُونَ للرَّئيسُ، وهِيُ عَريشُ المُخِّ، وعَرينُ العَّقْلِ أَشْرَفِ الأعْضاءِ ورَئيسِها، وقَيِّمِ الأَعْضاءِ ومُديرِها، وحَمَلْنا ما طاقَتْ أَيْدينا حَمْلَهُ وجَلَسْنا نَطْعَمُ، فَألَحَّ عَلَيَّ سؤالٌ ما هَدَأَ حتى خَرَجَ مِنْ بَيْنِ فَكَّيَّ وانْسَلَّ مِنْ بَيْنِ جَنْبَيَّ يَقولُ: ما بالُ السَّمَكِ كُلُّهُ رُؤُوسٌ، هَلْ تَرَكَ جِسْمَهُ في اليَّمِّ قَبْلَ أَنْ تَحيطَ بِهِ الشِّباكُ، أمْ هَتَكَهُ الطَّبْخُ إلى حَدِّ النُّحولِ والإِنْهاكِ؟
فَضَحِكَ الصَّديقُ الصِّنِيُّ ضَحِكَةً لا يَعْرِفُ حُسْنَها إلا مَنْ سَمِعَها، ولا يُدْرِكُ جَرْسَها إلا مَنْ عَرَفَها، ثم قال: (أَكَلوا السَّمَكَةَ حتَى رَأْسِها)..!
فَانْفَجَرَتْ مِنْ صَدْرِي اثْنَتا عَشْرَةَ عينًا منَ الضَّحِكِ، ضَحِكِ مَنْ ذاقَ ذَكاءَ نَحْوِ العربيةِ، وفَقِهَ دُروبَهَ، .. والرَّجُلُ أزهَرِيٌّ – على النَّمَطِ القَديمِ العَتيقِ الذي نَشَأتُ في مَعاهِدِهِ ورَوِيتُ مِنْ مَنابِعِهِ – خِرِّيتٌ دَرَسَ في أَرْوِقَتِهِ، وتَلَقَّى مَناهِجَهُ، وتَشَبَّعَ مِنْ مَدارِسِهِ. للهِ دَرُّهُ مِنْ زَميلٍ عالِمٍ ظِريفٍ!
وما ساقَني لِكتابَةِ تِلْكَ السانِحَةِ إلا لِيعْلَمَ مَنْ يَسْخَرُ مِنْ أَفاضِلِ مَعَلِّمي النَّحْوِ وشُيوخِ العربيةِ الأَزْهَرِيَّةِ بِقَوْلِهِ: (أَكَلْتُ السَّمَكَةَ حتى ذَيْلِها)، و(ده عامل دكتوراه في حتى!) أنهُ مَأْفونٌ محرومٌ مِنْ ذائِقَةٍ لا يَعْرِفُ قَدْرَها إلا مَنْ سَبَرَ جَمالَ العربيةِ ومَنْطِقَها وخَبَرَ ذَكاءَها وعَقْلَها مِنَ الأزاهِرَةِ والدَّراعِمَةِ حَيَّاهُمُ اللهُ وأَبْقاهُمْ ومَنْ سارَ على دَرْبِهِمْ وهُداهُمْ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ والفَضْلِ.
مِنْ أَجْلِ ذلِكَ تاحَ لي أَنْ أُسَجِّلَ هذِهِ الشّارِدَةَ مَرْدوفَةً بِتيكَ الفائِدَةِ:
فائِدَةٌ:
(حَتّى) تَأتي في العربية على ثلاثَةِ أَنْحاءٍ:
حرف عطف، وحرف ابتداء، وحرف جَرِّ للغاية.
– فمثال مجيئها عاطفة: (أَكَلوا السَّمَكَةَ حتّى رَأْسَها) فالرأس معطوفة على السمكة بحتى والمعنى: أَكَلوا السَمَكَةَ ورَأْسَها، ولذلك نُصِبَ الرَّأْسُ .. فلا جرمَ أن الرَّأْسَ مأكولٌ هنا.
– ومثال مجيئها ابتدائية: (أَكَلوا السَمَكَةَ حتّى رَأْسُها) فالرَأسُ مرفوعٌ لأنه مبتدأ خبره محذوف، والمعنى: أَكَلوا السَّمَكَةَ ورأسُها أَكَلوهُ أو مَأْكولٌ.
– ومثال مجيئها جارَّةً: (أَكَلوا السَّمَكةَ حَتّى رَأْسِها) فحتى هُنا بمعنى (إلى) حرف جر يفيد الغاية، والمعنى: (أَكَلوا السَّمَكَةَ إلى رَأسِها) أي أنهم أكلوا السَّمَكَةَ مِنْ بِدايَتِها إلى رَأْسِها فغايَةُ الأَكْلِ انْتَهَتْ إلى الرَّأْسِ، فالرَّأسُ لَمْ يَأْكُلوهُ.
هل علِمْتَ الآنَ لماذا قال الصّينِيُّ الأَزْهَرِيُّ العالِمُ: (أَكَلوا السَّمَكَةَ حتى رَأْسِها)؟!
****
سكينة جوهر الودع الصوفي بين جذوة النشأة والبيئة ومعراج الجمال فى ديوانها رياح
الخريف (2)
وحيد راغب
مثل قصيدة بين الحقيقة والخيال , فى ذات سهد , محاربي الهواء , وفاء , وشمس غاربة
في قصيدة ياسمين قوافيها قمة فى العذوبة والإبداع وفي استخدامها بسهولة المحترف المبدع والتلقائي معا كالقافية الشينية فى قصيدة ياسمين, فالشاعرة تمتلك ملكة عظيمة فى جلب القوافي الصعبة بتلقائية
فى قصيدة محاربي الهواء نهجت الشاعرة نهج صلاح عبد الصبور فى زيادة ساكن أو سبب فى التفعيلة القافية واستساغها الشعراء وساروا على منواله وتعود عليها القاريء , بينما اذا حدث ذلك داخل الشطرة فهوتجاوز فنجد القافية الماء ماء , حب واصطفاء
أما الموسيقي الداخلية :
فتمثلت فى التجنيس بين الكلام والحروف ,التجنيس فى الحروف بتكرارها فى الكلمات وهو من صفات قصيدة النثر والموسيقي الداخلية مثل قصيدة ورد أشواقي : أن يمنح الرحمن روحى حجة , تري كيف أن حرف الحاء تكرر أربع مرات فى أربع كلمات وفى قصيدة حلم : وعلي جمر الجوي النجوي سرا
تكرر حرف الجيم فى ثلاث كلمات
2- التضمين كما فى قصيدة هدد سواي ( إن العبيد لأنجاس مناكيد ) ويعتبر التضمين من الأشياء المستحبة فى الشعر إن وظف فى الإتجاه الصحيح فى الوزن والمعنى كخادم للبيت الشعري
واستخدمت التضمين بالأغنية كحلوة الحلوات فى قصيدة قبلة فوق خد مصر
3- ونجد الإنسيابية فى كثير من أبياتها ونري ذلك فى قصيدة الحلم
أحدث القلب المعنى بالجوي وردة حمراء معها ألف فلة
و الأبيات الجميلة مثل : وتولي عن لسانيا الذي لم نقله قاله عنا بطلة
4- استخدمت التصغير للتمليح كخديج في قصيدة ورد أشواقي, وكليمات ومهيجة فى قد مات قهرا
5-والحكمة:واذا اليقين ترسخت أقدامه بالروح … لا يودي بها إعصار
فاترك لما بك يحي الدمع فى ثقة إن الزمان لحزن الناس ما وقفا
والحرة العصماء من تختار
6-صورة جميلة : واذا توضأ طيفها فى مقلتي ليلا تراقص مهجتى الأسحار
فجعلت الطيف يتوضأ وشخصته وجعلت الأسحار تراقص المهج
ويرفل السعد لي في أجمل الحلل ..جعلت السعد يتخايل ويتعاجب ويرقص فى أجمل الثياب
تشبيه جديد للموت بأنه قتل قصيدة يممي الوجه شطر الله ولكن الشاعرة تناقض نفسها فى التشبيه فالقاتل لا يدق الباب , ولكن الموت يدق الباب بعلاماته كانحناء الضهر وتقوسه والمشيب , والضعف بعد القوة
وفى غد فجأة للموت سطوته ولا يدق على الأبواب قتال
7- استخدام جمع الجمع وهو من الاستخدامات النادرة مثل كثر
8- كلمات قليلة الإستخدام لابد من التعريف بها مثل القرم وتعنى عظيمها والحجون
9- الشاعرة تحب الإشتقاقات وهذه الخاصية تغذى اللغة بمفردات جديدة ومعانى واسعة , وتستخدم ألفاظا جذلة قد أهملها الشعر الحديث مثل تسجت من السج والعج فى الحديث عن الحج , وانبت ( المنبت لا أرضا قطع )
10- ونظرا لتأثير المناخ البيتى الدينى والتأثر بالقرآن والأحاديث النبوية فنجد جل قاموسها اللغوى منهما , في قصيدة ياسمين اللفظة يغطش ,وفي قصيدة صمت رهيب جلها من ألفاظ القرآن والسنة النبوية مثل انفطر واندثر والبيت الحرام وصفصفا والحجر والحجر الكريم وطائف وراكع ومؤذن ونداء وكسوة وتعج وطائف وشد الرحال وقصيدة ذوبني اشتياقي :
أسري والبراق والمحاق وتراق وآمنةوإيوان كسري وغار حراء وبني سعد وانقسام القمر , فهى قصيدة تأثرت جدا بما جاء فى بردة البوصيري وحب رسول الله وسيرته ومولده ومعجزاته
تحول الأحاديث الى معانى داخل قصيدتها أو تشير الى التضمين بعلامة بين القوسين ( سددو قاربوا ) مع التصرف حسب الوزن قصيدة عناء الهجر
سادسا – بعض المآخذ القليلة
-العناوين واضحة وتؤدي عند القاريء لمعرفة ما يدور بالقصيدة من العنوان فلا يجهد نفسه فى التفكير والبحث عن ما وراء المعنى بعكس العناوين الملفتة والملغزة التى تجذب حاسة القاريء لمعرفة ما يدور بالقصيدة من وراء المعنى فالوجبة جاهزة عرفها من مباشرة العنوان عدا قصيدة شأبيب ذكري رغم أنها أقل القصائد شاعرية إلا أن العنوان ملفت وبه كلمة غير مستخدمة كثيرا وتشبيه بسن القلم وما يخط من ذكريات
-اللام زائدة للوزن والقافية فى قصيدة حلم : خلته عنتر إذ ناجى لعبلة
وكسر وزنى فى الشطرة الثانية : عهد أمن إنه لا عهد له ( فاعلاتن فاعلاتن فاعلا ) فى نهاية الشطرة الأولى نعم محذوف سبب بينما الشطرة الثانية نهايتها التفعيلة كاملة فاعلاتن , فلو كانت الشاعرة تريد التجديد وفعلت ذلك فى كل القصيدة وساغتها الأذن كان نعم ولكن هى فعلت ذلك خروجا على مألوف البحر هنا
البداية كانت من آدم حيث أكل من الشجرة المحرمة متبعا غواية إبليس , وهذه النظرة متحدية لما جاء فى الكتاب المقدس أن حواء هي من بدأت بالخطيئة الأولي ,وكلا الرأيين مخالف للحقيقة وما جاء فى القرآن فى سورة البقرة , فأكلا منها
أن آدم وحواء اشتركا فى الخطيئة الأولي نسيانا وطلبا للخلد لا تحديا لله ومن ثم عاقبهما الله بالنزول لكد الأرض ثم تاب عليهما ولم يتب على إبليس
صدقيتي وارقبي أحواله آدم الشيطان إبليس استذلة
وكان يكفى لفظة واحدة من اللفظتين الشيطان أو إبليس
-قصيدة محاربي الهواء ..لم يجنوا منه سوي الذي يجنيه من ( لم يجنو من … لما كانت اللام جازمة فحذفت النون وأصبح هنا ساكنان الواو والألف وكان الساكن الثانى معوقا لاكتمال التفعيلة مستفعلن فأصبحت التفعيلة /0/0/00/0فخرجت عن التفعيلة الأصلية /0/0//0)
-قصيدة ود أشواقي قلق وزني فى التركيب اللغوي :فأفوز مع من نحو قدسك ساروا
قصيدة الى عشرين عشرين كسر وزني فى الشطرة إحمل عصاك وعنِّي ولِّ هيا ( والبحر الكامل متفاعلن متفاعلن متفاعلن ) بينما وزن الشطرة مستفعلن فعلاتن فاعلاتن
إنى أجهز والصحاب جرارنا حتى نكسرها وراك سويا
ولكن الشاعرة خففت الكلمة للوزن بحذف الهمزة
كسر وزني فى قصيدة ياسمين( بجدران كل حناياها طفلا … فعولن فعول فعولن فالاتن .. وهنا كسر فى التفعيلة الأخير لبحر المتقارب فعولن والسبب الهاء التي بعدها الألف الساكنة فلو حذفت لاستقام الوزن ولكن لا تستقيم اللغة ,كما أن طفلا هنا مبتدأ وليس مصدر لتستقيم الجملة والمعنى
-فى قصيدة هدد سواى وصف الوصف وهو استطراد بلا داعي فالبوم رمز للشؤم لا يحتاج تفسير أو وصف
وفيها خروج عن القافية الى شيء غير مستحب فالقافية التى تكون الواو أو الياء اعتبرت قريبة من بعض ولكن الألف بعيدة فاعتبرت هنا من القافية الغير مستحبة ( تهديد معبود , مواجيد عناقيد )
اضطراب فى المعنى فهى تقول شيئا ما ثم تنقضه فى البيت الذي يليه قصيدة هدد سواى , فهى تقول ليس فى العشق عابد ومعبود ثم تخرج من ذلك لتقول أن الحياة فيها العابد والمعبود أو السيد والمسود والعبد يحتاج للعصي وهذا ضد ما قالته عن العشق
وليس فى العشق معبود وعابدة وليس فيه ديانات وتوحيد
وهنا هذه الدعوة قالها ابن العربي فقامت عليه الدنيا بأنه يساوي بين الإسلام والديانات السابقة , والله أمرنا باتباع الإسلام كدين خاتم
ثم تقول : وليس للعبد إلا من عصا غلظت فى يد أسياده فالضرب تعبيد
-معني لا يستقيم فالوداد يجمع ويقوي لا يفرق كما قالت الشاعرة في قصيدة بباب خيمتهم
وصحوت من يأسي ألملم ما يبعثره الوداد
-قصيدة قد مات قهرا صرفت الظرف وهو دائما مبني فلا يصرف: واذا تراءي بعض حين كاملا
-التكرارا أو وصف الوصف فى قصيدة غيرة يلمع الماس ثم تجيء بلمعان الصفيح والقافية الزيادة بعدكلمة جواهرا تجيء ثمينة لا فائدة لها
وهناك مفهوم علمى خاطيء أن قيمة الماس ليس فى لمعانه بينما في قوة قطعه فتقريبا جيولوجيا مقطعه أعلى من السبع أى يقطع كل المعادن غيره , وهوتركيبه الكربون الفحم العادى ولكن اكتسب قيمته مع الزمن عندما ضغط مع الحرارة لحقب طويلة فكان الفحم ماسا أى تحول من معدن عادى الى معدن ثمين ونادر كالبلاتينيوم والمعادن المشعة والذهب
-كلمة الظلماء بعد غياهب فى قصيدة شأبيب ذكري زيادة للوزن
-في قصيدة بالصبر ينطق السعادة مضمومة وليست مكسورة
-عند استخدام الإسم كرمز لا يستخدم تفسير الرمز , لأن استخدامه يكون للتكثيف ولبحث القاريء عن المراد بالرمز وتوظيفه ( فإما طواحين الهواء وإما كيخوت ودون كيشوت )بمعني لافائدة كما جاءت فى رواية الأسبانى ميجيل
سابعا نحن نشكر الشاعرة على هذا الجهد الشعري الكبير الذي لايكل حفظها الله ,
ونشيد بها فى كثرة الأعمال الجيدة , وأفكارها المتتابعة , ونظرتها للشعر على أنه طاقة إيجابية توجه القلب والروح والعقل , فلا شعر بدون فكر على أن يكون الشعر بالصورة هو الذي ينطق بالفكرة لا السطحية المباشرة ,نشيد بها في أنها تحاول قدر الإمكان أن يلهمها التراث ولا تنسي واقعها والتطور , ونهيب بها فى القادم أن تقدم نماذج متطورة فيها الجديد خاصة وقد نضج الفكر وتزايدت الخبرة ,ورفرف العلم ,وإن ذكرت بعض الهنات فهى سمة لم ينج منها شاعر وقد توالت أعماله , فهى على سبيل تجاوزها لا قدح فى الشاعرية أبدا
الشاعر وحيد راغب